01-يناير-2017

حسين الحسن (1941-2016)

"مثل المحمّس ڭلبي كووه بنار
وبيش نتونّس من عگبكم يازين؟"

هو العاشق الذي يكتوي قلبه بالنار كما تكتوي حبات القهوة المرّة، العاشق الذي لايجد ما يؤنسه في غياب معشوقه سوى الإصغاء لصوتٍ كالنشيج. لم يكن حسين الحسن (1941-2016) مجرد مغنّ فراتي، يعزف على الربابة ويرتدي ثياب العَرَب بوجهة المشغول من طين الرقة السمراء. لم يكن مجرد صوت يترجم وجع الحياة وملذاتها غير المكتملة فقط، كان اللغة التي لا تفسر نفسها، ولا تبحث عن شيء أكثر من وترٍ مجدولٍ من نياط قلوبٍ تحب فتتوجع، وتعشق لتشتعل، وتشتعل لتنطفئ؛ ليبقى خلفها أثرٌ لايزول ولا يتلاشى.

"أبـات وبـات بالـضامـر طـواعين
ولـذيـذ الـزاد من غـبـتـم طـواعـيـن
حـرمـنـي البـيـن مـحـبوبي وطـوا عـيـنـي
 العـزيـز الـ نـام بتـلـول التـراب"

هو جزء من وعي الرقاوي بذاته. جزء مكمّل لصورة لم تكتمل يومًا إلا في ذهن من أدرك أنه من الرقة، من شمس قيظها وسمرة ترابها، من رائحة الذرة حين تهز أعوادها توسلات الماء وهمهمات الريح، من عجاجها وصوت الريح في ثياب نسائها الرافلات بالكودري والهباري العراقية، فوق وجوه مسفوعة بالشمس والوشم الأزرق الصيني، حين يقطعن "دربات" الرقة إلى أزرق سقط من السماء اسمه الفرات.

الفنان الشعبي حسين الحسن جزء من وعي ابن مدينة الرقة بذاته

هو جزءٌ من وعينا المبكر بحقيقتنا مثله مثل "باب بغداد" و"سور الرقة" و"الجسر العتيج"، مثل دخان البتغ العربي حين يمتزج ببخار الشاي في عيون الرجال المسجونة في احتمالات المطر ونداءات اليباب، مثل رائحة الخبز في ملافع أمهاتنا حين تنثني أطراف ثيابهن مع طقطقة الحطب في جنون النار، مثله مثل الصور التي لايمكن محوها حين تختزن في رأسي الرقاوي عن أزمنة لم أعشها تمامًا، لكنها أبدًا باقية في ذاكرتي، عن قطيع غزلان يختلط باصفرار قاتم في المدى، عن خيولٍ بريةٍ تعبر النهر، تلتفت لحظة قبل أن تنفض الماء عن جسدها وتعدو في زوابع إلى جهة أقلّ قتامة وأكثر وضوحًا، عن نساء يقفن أمام الخيول العائدة بلافرسانها، يندبن الغياب الأخير، ويخمشن خدودهن إكرامًا لوجع قديم من عمر تموز، عن ضفائر يجزها الحزن والغضب من القدر الذي لايستثني أحدًا، وضفائر تصطبغ بلون الشمس لفرح لابد سيشرق غدًا، عن حب لايكتمل إلا بالفراق، وشوق لايُفسّر إلا بالنجوى، ووصال لايتمّ إلا بصلاة في موضع التقبيل من أسفل النحر إلى أعلى رأس النهد المُستفَز.. ومن شفة لمياء يرتوي قلب العاشق بعد أن ترفع لثامها إشفاقًا على قلبه المدنف!

اقرأ/ي أيضًا: عامر سبيعي وأسئلة الأغنية السورية

"شرّع لثامو سگى الدلاّل من لامو 
واشفق علينا الولف ..واقف على جدامو"

وللاستماع إلى شجن حسين الحسن طقوس لايستقيم من دونها الطرب، فإذا أردت مجلسه فاخلع فرحك الكامل قبل أن تطأ صحن صوته، استقبل جهة القلب بإغماضة عين وتنهيدة أولى، انحن برأسك إلى الأرض كأنك تريد أن تقول "يا ألله" بخشوع، ثم لاتسعفك اللغة فتفعلها، تترنح كأن تعب الحياة طريقك الموحل، تفرك ركبتيك بيديك قبل أن يأخذك الطرب إلى ضربٍ خفيفٍ على صدرك، ثم إذا اشتعلت تمامًا يسوقك لتسعى بين بكائين:

"لُمّن لفى طارشكم فزيت طولي واگف
عن حالكم سايلته..والگلب يرجف خايف"

وعندما يأخذك الحنين إلى حياة لم تعشها لكنها تخصك، تعنيك، تطابقك.. عندها فقط ستفهم ما استدعاه صوته من تأويلات لنصوص محفورة على فراتك.

"مالي خيّن يزيل الهم عنا ولالي صاحبن ينفعني بجواب"

كن أكبر من حاضرك، أكبر من مستقبلك، كن أنت قبل أن تولد، كن جزءًا من حياتك السابقة التي لم تتخطَ هذه الأرض، ولم تعبر سوى هذا الفرات أكثر من مرة! كن تاريخ بلادك في خطوط الطول وهي تمرّ في وجوه أهلك جيلًا وراء جيل، في خطوط العرض التي تتشكل إذا ما أخذك الحنين إلى إيابٍ لا يجيء..، كن حفنة حنطة في يد ومنجلًا في يد أخرى، كن شفاه النساء يهزجن لتنتشي سنابل الحصاد، كن نظرة لا تتزحزح من شابٍ إلى "ضوح" السيجارة بيد صبيّة حلوة!

"موصح تشيل ازعلي وانت حبيب الروح
گلبك علي مابچى گلبي عليك ينوح"

هل ينسى الحبيب وعوده التي قطعها؟ أن يكون شريك حياته ويحمل معه الحزن والزعل؟ "قلبك لم يبك على حالي في غيابك كما يفعل قلبي الذي يحترف النواح إذا ما أثقل السهد جفنك أو اعترضك الألم!

"أسمر محمّص بنٍّ مطعّم هيل
من اللام ريجه جرى زاد المساهر ليل"

ويل قلبي! كيف تكون المعشوقة قهوتك بطعم الهيل، ويكون ريقها على شفتيها السمراوين وجعًا اسمه الحب، يزيد من أرق الساهر ليله بانتظارها؟!

أتساءل: كيف يستطيع حسين الحسن تحويل الصوت إلى آثار خطوات معشقة بأصوات أجراس الحرمل، وكيف يجعل من الربابة حديثًا طويًلا يقطعه النشيج كلما تكثّف في مسمعك، وتقطرّ إلى ماء فراتي يجري فيك ليصبّ في قلبك.. رجل يبكي حين يغني، وربابة تمد نسغ بكائه بأنين "عنين" مثل خدش أظفارها على سطح روحك الأملس! يتحدث بلسان العاشق الذي يهيم ويبكي بسبب حبٍ ينكأ الجراح التي خلفها غياب حبيبته، ولا شفاء لها بغير وصال ترتد إليه روحه الغائبة خلف خطاها:

"هايم وانوح..هواكم لاچم اجروحي
شوفك شفا لعلّتي. وترد علي روحي"

حسين الحسن هو الرقة لمن أرادها وحدها دون مدن العالم كلها

رجل ترك لنا مالا يمكن للدنيا مجتمعة أن تأخذه، أو تلغيه، أو تمحوه، أو تشوهه.. ترك لنا ذاكرتنا الرقاوية: 

"أبد ما تفيد حسراتي وندماي
وراح ال چان يطربني وندماي
خضاب الناس من حنّة وانا دماي
خضابي يسيل من عيني ل ايديا"

اقرأ/ي أيضًا: عن اختراع ميتة لخالد تاجا!

رجل هو الرقة لمن أرادها وحدها دون مدن العالم كلها.. رجل يرحل أو يبقى، ماعاد هذا يشكل فارقًا لمن استحال اسمًا من أسماء المدينة.. رجل يرحل لأن وجوده باقٍ، يرحل لأننا سنبقى دومًا، يرحل ليولد من جديد واحدًا منا يبحث عن نفسه فيجدها فيه!

"جيت أخمّ المنازل ونّ العلامة بيها
ياحيف ذيچ العشرة يصفي عدم تاليها"

جئت أتفقد المنازل بعد غياب أهلها، فلم أجد سوى علامات وآثار دارسة، ياحسرة قلبي على تلك العشرة التي آلت إلى عدم مقيم أبدًا. 

الرحمة والسلام لروحك أيها الرقاوي الجميل!

اقرأ/ي أيضًا:

لطيفة... صديقة الأنظمة العربية الاستبدادية

قناديل ملك الجليل.. أصل الفلسطيني حصان