05-يوليو-2021

عمان كما يصفها الكاتب محمد طملية مدينة لا تكبر، لكنها تتورّم (Getty)

عمان مدينة بلا بحر،  وتخلو من البحيرات والأنهار،  لكنّ نهرها القديم الصغير كان يلوح للمارين بين الرصيفة والزرقاء بذراعيه الصغيرتين، مندفعًا من رأس العين، عابرًا من عمق التاريخ القديم إلى الحاضر، فكان "حور ودفلى وعشب وصفصاف وتين وبقدونس وكزبراء ونعنع، تتفوح روائحها، من الأجمات والبساتين التي ترافق مجرى النهر من منبعه إلى مصبه" كما يقول أمجد ناصر. لكن هذه الصورة النوستالجية الفردوسية لعمان قد تلاشت وصارت جزءًا من الذاكرة الرومانسية والروايات الشفوية للعمانيين فالكل يقول "علمك بعمان قرية". يذكرنا أمجد بذكاء ملحوظ كيف أن الساحة الرومانية أصبحت ذاتها الساحة الهاشمية، وكيف أصبحت المفارقة التاريخية بين هندسة المدرج الروماني قبل مئات السنين، وبين فوضى عمان الحجرية في زمن المدن المتمردة شكلًا تأويليًا للمدينة المتمردة، كما يسميها ديفيد هارفي.

هل عمان قرية كبيرة، أم مدينة تمردت على القرية الصغيرة، وصارت مدينة تطل على سكانها من وراء التلال الرمادية؟  كيف صارت مدينة العبدلي البوليفارد صورة مشوهة لروح عمان القديمة؟

هل عمان قرية كبيرة، أم مدينة تمردت على القرية الصغيرة، وصارت مدينة تطل على سكانها من وراء التلال الرمادية؟  كيف صارت مدينة العبدلي البوليفارد صورة مشوهة لروح عمان القديمة، كما يصورها أمجد ناصر، والكثير من العمانيين المصابين بلعنة الحنين؟ هل جسور عمان وقلعتها القديمة، ومصاطبها وشوارعها وفضاؤها العام، وجبالها، وأبراجها ومولاتها وأنفاقها تترجم ماهية أهل عمان وروحهم وهواجسهم واختلافهم وذائقتهم التراثية والحداثية؟ لست هنا في صدد الإجابة على هذه الأسئلة المعقدة بقدر ما أريد مشاركة تأملاتي الذاتية في شكل المدينة وروحها وفضائها العام والخاص، وما فعلته يد الليبرالية الجديدة بروح المدينة التي عندما يغفو سكانها تبقى مستيقظة.

اقرأ/ي أيضًا: عمّان: الحقّ الضائع في مدينة ليست لأهلها

ربما لا تكون لغة الأرقام الوسيلة الأفضل لفهم ماهية الطبقات الاجتماعية وعلاقتها بمؤسسات الدولة، ولكنها تقدم دلالات جيدة لفهم الفجوة المرعبة بين الفقراء والأغنياء في الأردن، وفهم قطار النيوليبرالية الجديد الذي يسير مسرعًا للأمام، في الوقت الذي يسير فيه جل الأردنيين للوراء اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا. يشير تقرير منظمة أوكسفام  لعام 2020 أن عدد أثرياء الأردن من أصحاب الملايين يزيد عن 900 شخص، وقد زادت ثرورة هؤلاء الأغنياء أثناء جائحة كورونا بصورة كبيرة، ورغم خسارة بعضهم إلا أنهم استردوا خساراتهم في وقت قياسي خلال التسع شهور الأولى من الجائحة، خصوصًا عندما نتحدث عن قطاع البنوك والخدمات والاتصالات. وبناء عليه زاد الأغنياء غنى، وزاد الفقراء فقرًا، حسب ما يفرضه منطق السوق الحر، والنيوليبرالية الجديدة وعرابو الخصخصة، وسياسات التنمية المستدامة، والفوضى المقاولاتية في مدينة عمان. وبلغة الأرقام، فإن تحصيلات ضريبة الدخل والمبيعات أثناء الجائحة قد بلغت ما يقارب ستة مليارات دولار في عام  2000، بزيادة بلغت 8% مقارنة بعام 2019. 

إن معظم العاملين في القطاع العام ممن عضهم ناب الفقر وتغولت عليهم سياسات الحكومات النيولبرالية، فأكثر من 40% من دخل موظفي القطاع الحكومي مخصص لسداد الديون للبنوك التي تترجم آخر تجليات الرأسمالية المتوحشة والمدينة اللينة حسب وصف جوناثان رابان.

تبدو لي مدينة عمان أشبه بالمدينة الأرملة، أو كما يصفها الكاتب محمد طملية بأنها مدينة لا تكبر، لكنها تتورّم. قد يظن البعض أن هذا وصف قاس لا يليق بمدينة ولّادة تضج بالماضي العريق، وتتكئ على إرث مهول من التراث والذاكرة الوطنية بقضها وقضيضها. لا شك أن العمانيين مثلي يحبون عمان، ويتغزلون بروح عمان، بوصفها المكان والذاكرة والوطن، ولكن الحديث عن مدينة عمان دومًا ملغوم بالخطاب الهوياتي والمعيشي والسوسيولوجي والسياسي والآيدولوجي. هنالك نزعة رومانسية  تسيطر على المخيال الشعبي والنخبوي للعمانيين وغير العمانيين في حديثهم عن عمان في السبعينات وصولًا للتسعينات، بوصفها المدينة الحاضنة للشركس والشيشان والأرمن والمسيحيين، وأهل الشام واللاجئين الفلسطينيين، والبدو من الجنوب والفلاحين من الشمال، ولكنها في النهاية مدينة أردنية تاريخية تشكل مسرحًا للأحداث والتحولات الاجتماعية والسياسية، وذوبان الطبقة الوسطى وتغول الطبقة البرجوازية من ورثة السلطة والمناصب الثابتة.

وهل حديثنا عن عمان يقودنا للتقسيم الديموغرافي والبنية التحتية ومراكز صنع القرار التي تمثل عمان العاصمة، وعمان المختبر القديم الجديد للخارطة الاجتماعية والبرلمانية في الأردن. هل نتحدث عن عمان الشرقية، مرورا بوادي عبدون، وكأني به واد غير ذي زرع، والذي يطل عليه جسر عبدون باستعلاء مابعد حداثي مرعب. صارت ذاكرة الجسر لدى الأردنيين مرهونة بكثير من محاولات الانتحار لشباب بكامل مشمشهم فقدوا المعنى والهوية، وتحولوا لمادة انتحارية للمدينة التي تأكل أبناءها عنوة وعلى غرة. كيف لمدينة مثل مادبا أو الكرك أو إربد أو معان أن تصبح هامشًا تاريخيًا وحيويًا مقارنة بالعاصمة التي تترجم كل تناقضات الحداثة التي لم تحدث، وما بعد الحداثة خارج المكان. وهل الحديث عن عمان هو اختزال لعمان الغربية والمركز البرجوازي للطبقة الأكثر حظوظًا؟

 نعود لسؤال المدينة، بوصفها المدينة اللينة والمتناقضة والأم الرؤوم والأم الأرملة. يرى جوناثان رابان في كتابه "المدينة اللينة (1974) أن المدينة تغريك دومًا بإعادة صنعها، والمدينة اللينة هي مدينة الوهم والأسطورة، والطموح، والكابوس، وربما تكمن معضلة المدينة اللينة في سيولتها البنيوية، وتشظي هويتها، وهي مسرح عملاق ومتجر لا حدود له، ومتاهة تدعو سكانها للبحث عن الزمن المفقود فيها. كل ما علينا فعله هو التبصر في صورة "تاج مول" و"مكة مول" وغيرهما من المولات أمام شحّ الحدائق العامة، والحمامات العامة، والمكتبات العامة، والمسارح الجماهيرية التي تحوّل ضجيج المدينة وآلامها لمادة نقد اجتماعي وسياسي. تبدو لي مدينة عمان أشبه بالمتاهة، لو أردنا فهم مشاريع الخصخصة والتنمية المستدامة والبوليفارد، فهي مشاريع لا تأبه بالفقراء، بل تتعالى عليهم، وهي مشاريع تشوه روح المدينة التي توزع حصص التاريخ على سكانها كما يريد عرابو الليبرالية الجديدة؛ فالغني والسيد يورث قدره لأبنائه وأحفاده، والفقير يورث فقره لأبنائه وأحفاده، وكأن الطبقة الاجتماعية  قدر حتمي غير قابل للتغيير.

وسط المدينة "الجديد" في عمّان (Getty)

في مقال مهم عنوانه "قتل المدينة: التمدن النيوليبرالي والانتماء الاجتماعي في عمان الجديدة (2018)، يرى الباحثان روس هانشو وبرينان رايان أن النسق الحكومي المعماري في مشروع العبدلي (البوليفارد) وما تزامن معه من الإصلاحات الاقتصادية الحكومية، قد خلق مصالح نخبوية جديدة تغولت على الطبقة الفقيرة، وأصبحت المدينة مقتصرة على خدمة السوق، وليس خدمة المواطنين. ويقدم الباحثان نتائج يعرفها المواطنون العمانيون، لكنهم لا يجدون اللغة المناسبة لوصف هذا الاغتراب الرأسمالي، وهي أن العمانيين يشعرون دومًا أنهم ضحية القطيعة الروحية والحداثية مع المدينة والمكون المدني لها، والذي يخدم مراكز السلطة، ولا يخدم المواطنين أنفسهم.  

يدرك العمّانيون أنهم غرباء في مدينتهم التي تمردت رغم أنفها ورغم أنفهم، و أن عمان التي يحبونها لا تشبه عمان التي يسكنون فيها، ولكن بعض الحب قاتل

يدرك العمّانيون أنهم غرباء في مدينتهم التي تمردت رغم أنفها ورغم أنفهم، و أن عمان التي يحبونها لا تشبه عمان التي يسكنون فيها. ولكن بعض الحب قاتل، فشبح المدينة الأرملة يسكن زقاق المدينة وأبراجها ومولاتها الكبيرة ومقاهيها ومطاعم الماكدونالدز والبيتزا الإيطالية، والعمانيون يقبضون على جمر الأمل والتسويف والمستقبل والحياة، ويدركون أن الذاكرة العمّانية والفضاء المعماري هما روح المدينة وجسدها العاري، وربما تتغير المدينة في مخيال العماني، وتتبدل الصور بتغير فضاء المدينة الخاص والعام بمرور الأجيال، وقدرة المدينة على التنفس في زمن مات فيه بعض الأردنيين بسبب انقطاع الأوكسجين.

 

اقرأ أيضًا: 

المكتبات العامة في الأردن.. هجرة إلى "الكافيهات"