09-سبتمبر-2021

رجال أمن إسرائيليون يبحثون عن أدلة قرب سجن جلبوع (Getty)

صار معروفًا تقريبًا، بفضل أعمال ميشال فوكو تحديدًا، أن شكل السجن يسبق في وجوده استخدامه عمليًا، وفق الأطر المنهجية، والتي تسمى في أيامنا "قوانين العقوبات"، أو "قوانين جزائية". لقد كان السجن فكرة دائمة. وعلى عكس ما يبدو الأمر، فإن القوانين وضِعت لتطبيق فكرة السجن، ولم يُستحدث السجن لتنفيذ القوانين. في الأساس، نشأ السجن خارج القضاء وخارج فكرة العدالة من أساسها. ورغم أن فوكو كان يتحدث عن "آخرين"، أو عن الجميع، عن جميع الآخرين، بما فيهم هو نفسه، وعننا أيضًا، إلا أن السجن الذي يتحدث عنه، ليس الآن سوى سجن "جلبوع"، وسجون الاحتلال الأخرى. تجاهل الاستعمار الاستيطاني وجود فلسطينيين في فلسطين، وما زال يحاول دائمًا، أن يقنع نفسه، ويقنع العالم، أنهم ليسوا موجودين، بحيث يمكن النظر إليهم، والتصرف كما لو أنهم مرئيين. يمكن قتلهم، ولن يلاحظ أحد ذلك، كونهم ليسوا مرئيين. يمكن الاستيلاء على أرضهم، بما أن أحدًا لن يشاهدهم، أو يعترف بوجودهم. بعد المقاومة الطويلة، اخترع حلولًا أخرى، من ضمن مشروع الإبادة الاستيطاني نفسه: إخفاء الفلسطينيين، وتحويلهم إلى سجناء دائمين. لجأ إلى توسعة دائرة "الرقابة والعقاب" إلى درجة ما كان هوس فوكو نفس بالموضوع، قادرًا على تخيّلها.

على عكس ما يبدو الأمر، فإن القوانين وضِعت لتطبيق فكرة السجن، ولم يُستحدث السجن لتنفيذ القوانين

تقوم المعادلات الفوكوية على عدة شروط قابلة للتطور، وتستند إلى عدة عناصر، كما تحضر فيها مفردات جذرية، مثل "تقنين سلوك الأفراد"، و"السيطرة على أجسادهم"، من بين عبارات أخرى كثيرة. وإذا حاولنا اليوم الإجابة على سؤال عملاق، مثل "من هم الفلسطينيين"، بالنسبة للإسرائيليين، فقد ننفق وقتًا طويلًا في أبحاث الأنثروبولوجيين وفي أعمال الأكاديميين، وقد يكون ذلك مفيدًا قطعًا. لكننا نعرف الجزء الأكبر من الإجابة، كما تعبّر عنها منظومة الاحتلال بلا مواربة، أي أن الفلسطينيين، ضحايا الهيمنة والسيطرة والتقنين، هم مجرد أرقام. لكل واحد منهم رقم، يحمل صوت صاحبه بصمة، تذهب في نهاية الأمر إلى حاسوب ضخم، وتراقب كل تفاصيل حياته ضمن مجموعة هائلة من البيانات. كل فلسطيني، في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، وفي جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو رقم في النهاية، تندرج تحته سلسلة معطيات، مثل طول قامته، الأماكن التي يذهب إليها، ميوله السياسية، تحصيله العلمي، علاقاته العامة، لون شعره، الفرق التي يشجعها في كرة القدم، رأيه بالاحتباس الحراري، إلخ. كل فلسطيني هو مجموعة بيانات، هو شخص مراقب، لكي يتسنى للاحتلال معاقبته، كعملية اعتراضية على وجوده في الًاصل، كما يتفتق عن أي مشروع استعمار استيطاني.

اقرأ/ي أيضًا: سجن جلبوع وجدوى المقاومة المستمرة

تقول سلطة الاحتلال إن سجن "جلبوع" هو الأكثر تحصينًا (وقد تحول الأمر إلى نكتة في الأيام الماضية). وهي تعني بذلك، أن جميع السجون محصنة، وأن الحالة البانوبتيكية مطبقة في السجون الصغيرة، كما في السجون الكبيرة، كما على كل قطعة أرض يهيمن عليها الاحتلال. وتاليًا، في وعي الاحتلال/ السجان، يمكن مراقبة جميع السجناء دفعة واحدة، ومن مكان واحد، بالنظر إلى أنهم جميعًا سجين واحد، في سجن واحد. والأهم، أننا نخضع للضبط قبل كل هذا، عبر مراقبة دقيقة، نعرف بوجودها من دون أن يتسنى لنا تأكيدها عينيًا. الخروج من النفق، ومغادرة سجن "جلبوع"، مهما كانت الأحداث لاحقًا، هو اعتراف بوجود هذه الضوابط، وتاليًا التمرد عليها، أي أن رفض لهيمنة الاحتلال على حياة الفلسطينيين، ونفي لاعتقاده عن قدرته على صناعة حياة خاصة. تحاول السُلطة تشكيل ذواتنا في سياقات أخرى، والمسألة بالغة التعقيد. لكن الخروج من النفق، يتجاوز كونه وعيًا طبيعيًا بالحرية، وعملًا جبارًا من الناحية التقنية، إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.

كل فلسطيني، في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، وفي جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو رقم في النهاية، تندرج تحته سلسلة معطيات، مثل طول قامته

لن يمكننا، في حياتنا، أن نعرف ذلك الشعور، في تلك اللحظة بالذات، عندما خرج الأسرى من آخر النفق. الضوء سيبقى هناك، في مكانه، في ساعات الفجر الأولى، عندما غادر المعتقلون، وتركوا خلفهم أسوار المراقبة تنبح بلا جدوى. في تلك اللحظة التي أثبت فيها المعتقلون أنه لا يمكن اخفاؤهم. وقد نتساجل، فيما بيننا، عن نفق الآخرين، ونحلم باللحظة التي سيتحول فيها "جلبوع" إلى ذكرى، مثل معتقلي "أنصار" و"الخيام" في جنوب لبنان. وربما يجب أن نتوقف مليًا، أمام صورة المحقق الإسرائيلي، وهو ينظر إلى الحفرة التي خرج منها الأسرى الفلسطينيين. ولأنه لا يمكننا أن نكون في مكانه، يمكننا أن نفكّر بما كان يدور في رأسه هو الآخر، من أجهزة انذار وكاميرات مراقبة وأسلاك شائكة ووسائل تعقب، وكل ما يملكه الجلادون. ويمكننا، لعدة أسباب، أن نشعر للحظة بالتفوق عليه، لأننا ما زلنا بشرًا، ولم نتحول إلى خوارزميات. قد تهزم الخوارزميات العالم بأسره في نهاية الأمر، لكن لدينا بعض الوقت لنحتفل الآن بحرية المغادرين.

اقرأ/ي أيضًا: ناشطون ومغردون عرب يحتفون بأبطال عملية التحرر من سجن جلبوع

يمكننا التأكيد، أن المحقق أمام الحفرة، لن يسقط فيها، لكي لا نبالغ في التقدير، لكن يبدو، وبوضوح تام، أنه سيفكّر في الأمر عندما يعود إلى مكتبه، وفي غرفة العمليات، وعندما يعود إلى منزله. لن يكون هذا المفكّر هو السجين الوحيد، فالإسرائيليين، ومنذ وقت بعيد، باتوا يعرفون أنهم يقيمون في السجن الذي اخترعوه. الفارق الوحيد بينهم وبين السجناء، أن الأخيرين يملكون وطنًا خارج هذا السجن وداخله. أما الاحتلال، فلن يملك شيئًا. لن يمتلك بصمات الأصوات التي يحتفظ بها في الحواسيب. تلك أصوات تعود لأصحابها وحسب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أهلًا بك في عالم الرقابة والعقاب

أنيس دولة.. جريمة حرب إسرائيلية

دلالات: