27-أغسطس-2015

الحسين في كربلاء، من مقتنيات متحف بروكلين

في أطروحته للدكتوراه من جامعة هامبورغ (1939)، المترجمة عن اللغة الألمانية (منشورات الجمل، 2005) يقدم المؤرخ العراقيّ الدكتور جواد علي، ابن الكاظمية (1908)، رؤيتَه العلمية لفترة غامضة من فترات التاريخ الشيعيّ الاثني عشريّ، فترة اختفاء الإمام الثاني عشر خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجريّ وما تلا تلك الفترة، حاصرًا جميع المراجع والدراسات ذات الصلة، فضلًا عن النسخ الأصلية للمخطوطات المتوفرة وتراجم الرجال منذ الغيبة الصغرى حتى القرن العشرين، مفككًا بأسلوب علميّ رصين في عشرة فصول هذه الحقبة من التراث العربيّ الاسلاميّ حيث اختلط فيها الواقع بالأسطورة. 

في سياق جمعه ومقارنته للروايات المتعدّدة المصادر وبالأخصّ القديمة منها، كالنعماني والمفيد والطوسي، يشير صاحب "المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام" إلى التناقض الظاهر في الروايات حول مولد الإمام الثاني عشر. والتناقض الواضح يشمل الرواية الأكثر شيوعًا في تلك الفترة والتي نقلها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسيّ. 

 المصادر من جميع الفترات والمشارب يجب أن تكون موضوعًا للبحث

تعود أهمية الرواية، بحسب الكاتب، إلى كونها الرواية الوحيدة التي نقلت عن شاهد عيان حضر ولادة المهديّ، وهي حكيمة أخت الإمام الجواد وجدّة المهدي، بخلاف باقي الروايات التي نُقلت عن سفراء أو علماء لاحقين. ولتفسير هذا التناقص في الرواية الواحدة يرجّح الكاتب فرضية اهتمام الشيعة في تلك الفترة كان منصبًا في جانبة الأكبر على تأكيد وجود هذا الإمام بعد التباس مسألة ولادته من عدمها، وبعد سعي عمه "جعفر" إلى المطالبة بالميراث، بذريعة عدم وجود عقب للإمام الحادي عشر. 

كما يذكر مصدر واحد من المصادر المتأخرة هو "بحار الأنوار"، الجزء الثالث عشر في ما يخصّ تاريخ ميلاد المهدي، توقيع الإمام الحادي عشر، والد المهدي لأحمد بن إسحاق القميّ، بأنه "قدم له ولد" وذلك سنة 254 للهجرة. أما المصادر القديمة المذكورة أعلاه، فقد اختلفت بين الأعوام 255 و266 للهجرة وهي تواريخ ظلت، بحسب الكاتب، معتمَدة لدى الشيعة المتقدّمين إلى أن ظهر خلاف ذلك لدى "الأربيلي" من العلماء الشيعة المتأخرين، بإرجاعه سنة الوفاة إلى العام 228 للهجرة. ومنذ ذلك الوقت، ظل الخلاف طاغيًا حتى أن المستشرق الشهير غولد تسهير أحال تاريخ الولادة إلى سنة 872 للميلاد/ 258 للهجرة. 

والغريب، في الأخير، عدم إحالته إلى أي مصدر آخر. أما فيما يخص أمّ المهدي، نرجس أو ريحانه أو سوزانة، فتخرج، على حدّ قول الكاتب، إلى طور الغرابة، إن لم نقل الأسطورة، قصةُ نسبها المتصل بالحَواريين من جهة شمعون وبعدم قدرة القيصر عل تزويجها من ابن أخيه وحلمها بالعرس بحضور المسيح والنبيّ محمد وابنته فاطمة، وتحقق ذلك الحلم بسوْقها إلى بغداد أسيرة المسلمين وشرائها من قبل الإمام بإرساله يطلبها من نخاس في بغداد بعلامة الرسالة باللغة اليونانية بخطِّ يده. ويعود منشأ الشكّ بهذه الرواية كما يضيف الكاتب، إلى كون الرواية المنقولة عن حكيمة في هذا السياق لا تذكر سوى أن الإمام الحادي عشر زارها في بيتها ووجد عندها نرجس، فأهدته إياها. فما سر تلك الاسطورة؟!                                                  

يناقش صاحب "معجم ألفاظ الجاهليين" بعد استعراض المفاهيم المرتبطة بالمصطلحين عند عدد من الفرق الشيعية من واقفية وكيسانية ونصيرية وغير تلك الفرق، موضوعَ اختفاء الإمام "الغيبة" وما يتوارد في كتب عديدة وتتناقله صفحات التراث وألسنة العامة عن قصة السرداب المشهورة، سرداب سامراء أو الحلّة، و مدى صدقية هذه القصة.

يستنتج الكاتب بعد استعراض مختلف الآراء والمصادر والروايات أن القصة المشهورة في الأوساط الشيعية لم يأت على ذكرها أيّ من مراجع زمن الغيبة الصغرى فضلًا عن الطوسي. وأن أول من سرد القصة كان ابن الجوزي المتوفي سنة 596 للهجرة، ما يحصر حقيقة القصة بين احتمالين اثنين، يوردهما الكاتب كما يلي: "إما أن فكرة اختفاء الإمام في السرداب انتقلت إلى عقيدة الشيعة عن طريق سوء فهم أهل السنة لهذا الأمر، أو أن الشيعة كانت لهم هذه الفكرة من قبل، دون أن يتطرق إليها كاتب شيعي في ذلك الحين".

كان أول من سرد قصة غيبة الإمام ابن الجوزي المتوفي سنة 596 للهجرة

تعتبر فترة الغيبة الصغرى الحقبة الأساسية والمركزية والأهم في تاريخ بناء التنظيم الشيعيّ. وهي الفترة التي تعاقب خلالها على رئاسة الشيعة الاثني عشريّة سفراء أربعة كانوا بمثابة وسطاء بين الإمام الغائب وشيعته، وهي كذلك الفترة التي تطور خلالها علم التوحيد الشيعيّ وتأصّل في نظرية كلامية بالمقارنة مع المذاهب الإسلامية الأساسية الأخرى. 

يقول جواد علي في الفصل الثامن من أطروحته "أن أساسًا إجماليًا لمذهب شيعي يقوم على أساس مشترك لعلمائهم مثل مسلمات المعتزلة لم يكن موجودًا في ذلك الحين، ما قبل الغيبة الصغرى"، ولم تظهر عند العلماء ضرورة صياغة مبادئ لعلم التوحيد إلا في فترة الغيبة الصغرى"، ومنذ البدايات، منذ ما قبل الغيبة، مع رجال الإمام السادس "جعفر الصادق"، الضالعين في الفقه والكلام والمناظرة كزرارة ابن أعين ومؤمن الطاق وهشام بن الحكم والجواليقي وغيرهم، وصولًا إلى زمن الغيبة وما بعدها مع رجال كالصدوق والكلينيّ والمفيد، يقوم الكاتب بجرد كامل ودقيق للحيثيات التي تشكل الصياغات العلمية والحديثيّة والعقيدية للمذهب. كما ويهتم بدرس اختلافات السياقات مع السائد من المذاهب الأخرى والكتب في تلك حقبة. وذلك بهدف معرفة كلّ الظروف التي بلورت أسس المذهب آنذاك.
                                                                                                          
يجهد صاحب "تاريخ الصلاة في الإسلام" خلال أطروحته، في تفكيك مناطق التماس والغموض في العلاقات بين المذاهب والشخصيات الدينية في فترة مثيرة وغامضة كالغيبة الصغرى. كما وتساعد الأطروحة في تأصيل الانتماءات لدى الشخصيات والرجال الذين قاموا بجمع تراث أئمتهم ومذاهبهم. وتؤدي بشكل كبير إلى استيعاب الواقع الإثني عشري الحالي لجهة السائد من الألفاظ والكلمات ذات الدلات المذهبية الشاملة "غيبة، رجعة، تقية، بداء.." والتفريق بين كونها أصولًا دينية أو خلافًا نظريًا سياسيًا تلبّس لبوس الدين. وتسهّل استيعاب خلفيات الانقسامات المدرسية في فرقة دينية كالاثني عشرية بين أصوليين عقليين، أصحاب رأي واجتهاد وأخباريين نقليين.

في الخلاصة، وبخلاف الكتّاب الذين يستسهلون التطرق إلى فترات مهمة وغامضة في التاريخ الإسلامي من غير جهد بحثي كبير، يشدد البحث حول هذه الفترة من تاريخ الشيعة على الالتزام ببعض الأسس والتنبه لبعض الافكار عند التطرق لتاريخ الشيعة، منها أن فكرة الإمامة في المذهب الشيعي القديم كانت هي المسألة الحاسمة في الانتماء الشيعي، وأن الشيعة كانوا احرارًا وقتها في بقية المذهب. 

ويشدد الكاتب في خلاصته على ضرورة عدم إهمال أي مصدر من المصادر التي تطرقت إلى الموضوع، بل ويوجب علاوة عل ذلك دراسة حياة هؤلاء العلماء بشكل مفصل. فعلى حد قوله "لا يكفي كتابة تاريخ الشيعة بناء على تراجم وشروح مفردة، خصوصًا في ميدان الحديث، وإنما يجب على المرء أن يستعمل كل ما يمكن الوصول إليه من أجل اختبار الدقة والأمانة". كما يلفت الى أن المصادر من جميع الفترات والمشارب يجب أن تكون موضوعًا للبحث، إذ من الممكن وجود أشياء في مصادر متأخرة مفتقدة في المصادر المتقدمة والعكس صحيح. 

كما يؤكد الباحث، تلافيًا لسوء الفهم من البداية، على أن التطرق لموضوع الغيبة في البحث هو تناول من منظور تاريخي/ عقائدي وليس من منظور ديني، كما لا ينتمي للجانب العقائدي من الموضوع كله سوى مسألة وجود الإمام الثاني عشر من عدمه.