08-مارس-2016

غرافيتي في القاهرة

اعتمد مصطلح النسوية في حقول العلوم الإنسانية رسميًا عام 1910، وذلك في مؤتمر دولي ساهمت في عقده النسوية البارزة كلارا زاتكين، حيث أعلن الثامن من آذار/مارس عيدًا عالميًا للمرأة، وهو التاريخ الذي اعتمدته عصبة الأمم لإحياء ذكرى العصيان المدني، الذي قامت به العاملات في نيويورك عام 1895 احتجاجًا على الأوضاع البائسة التي كنَّ يعانينَّ منها، وقد ماتت بعض العاملات أثناء الاحتجاجات.

البداية الحقيقية لكتابة المرأة العربية كانت مع بداية عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر

لكن ما علاقة المرأة بالنص؟ وما هي المنطلقات التي جعلتها تلجأ للأدب بحثًا عن نفسها؟ وهل لمصطلح الكتابة النسوية وجود له محددات واقعية مادية؟

اقرأ/ي أيضًا: كيف يحفظ الأدب أرواحنا؟

قضية ضبط المصطلح الخاص بالكتابة النسوية أو بالأدب النسوي، وتعيين وجوده ومجال اشتغاله الدلالي من القضايا التي حظيت بالجدل الكافي لملء مجلدات حولها، ولا يتسع المجال لتناول وجهات النظر التي دارت حول الموضوع، الذي يرتبط بحكم طبيعته المطاطة بالمناهج النقدية الحداثية وما بعد الحداثية والاجتهادات والمرجعيات إلى آخره.

أما ما يخصنا في هذه المساحة، بشكلٍ سريع، هو التعرض لنشأة الرواية النسائية العربية، ووفقًا للناقدة السورية بثينة شعبان فقد كانت هناك محاولات في عصور ما قبل النهضة، مثل كتابات الخنساء، وليلى الأخيلية، ورابعة العدوية، وولادة بنت المستكفي.

كان التاريخ الشفوي بطبيعة الحال هو الوعاء الحامل لقصص المجتمعات المتن الذي يختلف عن قصص المحاربين والحروب وبطولات السيوف، قصص الواقع اليومي والحياة العادية، وربما يمكننا القول إن القصة الشعبية هي ابتكار نسائي.

لكن البداية الحقيقية لكتابة المرأة العربية كانت مع بداية عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر، حيث مارست المرأة مستويات عديدة من الإبداع في محاولة منها لمسايرة العصر، فظهرت أليس بطرس البستاني وهي الكاتبة الأولى في تاريخ القصة العربية الحديثة، مرورًا بزينب فواز صاحبة رواية "حسن العواقب"، ثم تبعتها رواية قلب الليل للبيبة هاشم.

وهناك جدل طويل حول "أول رواية" نسوية بحق، وفي هذا الجدل من الأخذ والرد الكثير، غير أن رواية "حسن العواقب" لزينب فواز هي الرواية الأولى التي حملت ملامح الكتابة الروائية، فقد عالجت زينب من خلال روايتها جزءًا من القضايا الاجتماعية والسياسية، وتظهر النساء في الرواية مقاتلات عنيدات من أجل ما يقتنعن به.

تعد رواية "حسن العواقب" لزينب فواز الرواية العربية الأولى التي حملت ملامح الكتابة الروائية النسائية

ظهرت أيضًا روائيات عربيات أغفل النقد الأدبي ذكرهنَّ مثل عفيفة كرم، مؤلفة رواية "بديعة وفؤاد" التي لبت معظم المتطلبات الفنية للرواية الحديثة في مراحلها المبكرة، وتشترك مع رواية حسن العواقب في أهدافهن الأخلاقية، فهي لا تقدم المرأة بوصفها شرًا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، بل بوصفها بشرًا تمتلك نقاط ضعف وقوة وتصيب وتخطئ.

اقرأ/ي أيضًا: العرب والقراءة.. ستيريوتايب القطيعة

كاتبة أخرى تحدثت عن الحياة الاجتماعية أو ما يمكن أن نسميه حياة الخبز والملح وهي فريدة عطايا، كتبت روايتها لتحدثنا عن الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدت إلى حدوث مذابح الأرمن في روايتها "بين عرشين". رصدت فريدة عطايا صور حياة النساء اليهوديات في الطبقة الوسطى والعليا والتاريخ الواقعي لتلك الفترة التاريخية.

بدأت المرأة تكتب عن نفسها وعن حياتها بدافع أخلاقي، وهو أمر يناسب السائد اجتماعيًا في تلك المرحلة حيث التمركز حول المرأة جسدًا وعضوًا في صف الولاء البطريركي للمجتمع، وترسًا من تروس التناسل فيه، غير أن اللافت للنظر أن هذا التراث لم يتم العناية به وإبرازه كما يجب، بل عانى تجاهلًا كبيرًا من جانب النقاد، وقد يُعزى ذلك إلى الآخر الذي لم يقبل القيمة المتمثلة في امرأة واعية ناضجة قادرة على التواجد بوعي يوثق المرحلة، وقد يرجع إلى عدم موضوعية تاريخ النقد مجملًا، خاصًة في تعامله مع هذه المساحات التي تكون فيها المرأة بطلًا لا كومبارسًا يؤدي دوره في الخلفية.

ولكن هل هناك أدب يكتبه الرجل وأدب تكتبه المرأة؟ هل يتناقضان مثلًا؟ تقول الناقدة نازك الأعرجي في كتابها "صوت الأنثى"، أن الأدبين يختلفان بالضرورة من حيث عناصر الصراع التي يتوفر عليها، ومن حيث طبيعته الصدامية المحتمة مع الثوابت، ومن حيث الإشكالية الوجودية التي ينبثق منها محاولة قراءة الأدب بتوصيفه أدبًا نسائيًا، ليس سوى محاولة لتفكيك الأدب الذي تكتبه النساء وفهم طبيعة آلياته، واكتشاف فعله الداخلي الذي يهدف إلى البوح عن المخفي بقوة الـ "لا" الذكورية، وبقوة الأعراف والقوانين والتقاليد والتفسيرات والرؤى الذاتية والموضوعية، التي أقرتها أوضاع اللامساواة عبر عشرات الآلاف من السنين.

وعي المرأة بخصوصيتها ككاتبة ينبع من وعيها بتجربتها التاريخية

وعلى أي حال فإن التجربة الذاتية هي الحكم النسبي في هذا الموضوع شأنها شأن مواضيع أخرى، فوعي المرأة بخصوصيتها ككاتبة ينبع من وعيها بتجربتها التاريخية.

اقرأ/ي أيضًا: الوردة والرشّاش

وهناك من يرى أن أدب المرأة له خصوصية، من حيث هو ممارسة إبداعية قاسمها المشترك كما يقول الكاتب سعيد يقطين، هو البعد النسائي الذي يتجلى على نحو خاص من خلال الذات الكاتبة باعتبارها امرأة، وليس من خلال المرأة بصفتها الإبداعية، ويرى أنه على الرغم من كون مفهوم الأدب الرجالي غير مستعمل، فتوصف الكتابة النسوية بأنها داخلية، مغرقة في الحميمية والبعد الإنساني والمباشرة.

 هل من نسوية جديدة؟

تعاظم تيار النسوية بعد منتصف القرن العشرين كما يقول الدكتور محمد عبد المطلب، في كتابه "قراءة في السرد النسوي"، فأصبح هناك ما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو أدبي، وكلها تهدف إلى نقل المرأة من الهامش إلى المتن، وإلغاء قاعدة المفاضلة التي أدخلتها الهامش مرحلة زمنية طويلة بوصفها تابعة للرجل.

تعددت شعاب النسوية فيما بعد، منها ما يطال في أبعاده مساحات بعيدة من التطرف، تبريره في ذلك تعويض المرأة عن مرحلة التهميش التي حاصرتها زمنًا طويلًا، ومنها معتدل يرى أن النضج يستوجب مرحلة المفاضلة.

وقد عرض الدكتور عبد المطلب في كتابه "نماذج بديعة"، لموضوعات وتقنيات تناولتها المرأة منها على سبيل المثال أبجدية الجسد، وهي تعني الألفاظ التي تشير إلى الجسد بوصفه محددًا فيزيائيًا للوجود ولاغيًا له أحيانًا، على سبيل المثال نص "إنه جسدي" للكاتبة اليمنية نبيلة الزبير، حيث يتفجر السرد في هذا النص الروائي من دائرة الجسد، جسد الرواية التي تقف على الأعراف تقول: "كنت أصحو من شيء لا أظنه النوم، عيناي مغمضتان، أنا مستيقظة ممدودة، نعم أنا ممدودة تمامًا أسمع كأن مجرفة تسحب أعضائي.. ربما لا تكون مجرفة، ربما يد.. أين يدي؟ الحمد لله.. هذا رأسي، بدأت أتحسس جسمي كله، أحسه، هذا وجهي.. هذا عنقي، هذان كتفاي.. أشعر بألم في كتفي، إنني بخير، صدري. إنني أتنفس بصورة جيدة".

أعطت البطريركية الجسد الذكري حرية الانكشاف، فإذا بالسرد النسوي يسمح للجسد الأنثوي بالتجلي والسفور المطلق

في نص آخر للكاتبة ليلى الرملي "الشرك"، تسعى الرواية للخلاص من إسار الوحدة، يأتي الآخر سدًا يحول بينها وبين الخلاص، ومع العجز من الهروب من المكان، يكون الهروب سلبيًا إلى فراشها، ومن ثم يكون الهروب الأخير، بتغييب مجموعة أعضائها الجسدية وفي النص: "مدي لي يدك.. أخرجيني من سجني، نعم يداك تقتربان مني، ها هما وصلتا إليّ.. سقطت عيناها على ذراعيها، وجدتهما تأملت كفيها.. احتضنتهما".

اقرأ/ي أيضًا: "فتاة القطار".. رواية عن نساء على الحافة

الملاحظ في السرد النسوي هو غياب الجسد الذكوري، وهو يشير إلى أن هذا السرد يكاد يكون مضادًا للثقافة، لأنه كما يقول الدكتور عبد المطلب، حاصرت الثقافة العربية البطريركية الجسد بالحماية المادية والمعنوية، لكنها أعطت الجسد الذكري الحرية المطلقة في الانكشاف، فإذا بالسرد النسوي يسمح للجسد الأنثوي بالتجلي والسفور المطلق، بل ويتعرض لبواطنه المحرمة، بينما يتعرض للرجل بطريقة غائمة ومبهمة، مثل: كبير الكرش، طويل، قصير، قوي الجسد بشكل متناسق.

السلطة الاجتماعية والأنثى

وهذه التقنية السردية تقدمها الكاتبة عفاف السيد في صياغة جافة خشنة، في قصة "مجرد ثمن"، حيث يستحضر السرد راوية عائدة من تجربة زواج قهرية، أشبه ما تكون بصك بيع وشراء، وتحمل الراوية أمها مسؤولية المأساة برمتها، فأمها كانت القاضية والمحلفين وشهود المحكمة، ثم كانت منفذ الحكم تقول لأمها وهي تواجهها بخشونة: "أنت تدفعين أحلامي ثمنًا بخسًا لدرء خطر أنوثتي المدججة بالصخب.. بالانطلاق.. بالطموح.. بالتمرد.. فأهلتِ على عمري النادر الخبرة.. القليل السنين.. كثيرًا من زمن العجائز في تجاربهم البطيئة الجامدة، العتيقة المدلول، وأخذتني إليه وكره المدسوس على الوجود في غفلة الصيرورة.. لقد جاء يا أم من خلف الزمن، هذا الذي ألقيتني في بيته بصك فاشل ومسروق من برديات مندثرة".

السيرة الذاتية

رأيتها بهية وبلغة ساحرة رغم قسوة الموضوع الذي تتناوله "تاء الخجل" للكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق، حيث تبوح بما يدور في أعماقها كأنثى شرقية تتوق إلى التحرر من عصر الجواري والحريم تقول في اقتباس مؤثر: "منذ العبوس الذي يستقبلنا عند الولادة، منذ أقدم من هذا، منذ والدتي التي ظلت معلقة بزواج ليس زواجًا تمامًا، منذ كل ما كنت أراه فيها يموت بصمت، منذ جدتي التي ظلت مشلولة نصف قرن من الزمن إثر الضرب المبرح الذي تعرضت له من أخي زوجها، وصفقت له القبيلة، وأغمض القانون عنه عينيه. منذ القدم، منذ الجواري والحريم، منذ الحروب التي تقوم من أجل مزيد من الغنائم، منهنَّ.. إليً أنا، لا شيء تغير سوى تنوع في وسائل القمع وانتهاك كرامة النساء، لهذا كثيرًا ما هربت من أنوثتي، وكثيرًا ما هربت منك لأنك مرادف لتلك الأنوثة".

ينطلق السرد النسوي من محور الداخل إلى محور الخارج، وسرعان ما تتبدل الأمكنة بين الداخل والخارج

تصف فضيلة من خلال سرد حكايتها ما قامت به الجماعات الإسلامية المتشددة، والمتمثلة في "جبهة الإنقاذ الوطني" الجزائرية في العام 1994 في صراعها مع الحكومة الجزائرية، وما فعلته في النساء الجزائريات، وهي ممارسات لا تختلف كثيرًا عن تلك التي قام بها الدواعش مع النساء الإيزيديات، وما قامت به الميليشيا العسكرية المسلحة إبان الحرب القذرة في الأرجنتين.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت

من الملاحظ في السرد النسوي انطلاقه من محور الداخل إلى محور الخارج، وسرعان ما تتبدل الأمكنة بين الداخل والخارج، بل إنها في بعض الأحيان تتخذ مواقف مختلفة من الداخل المرسل خارجًا، بينما جاء السرد الآخر من الخارج.

ولأن الداخل هو منطقة البدء الأثيرة في السرد النسوي، نلاحظ نفوذًا عظيمًا لأدب السيرة الذاتية، والاقتراب من الجسد والحكاية بشكلٍ عام، لأنها تنطلق دومًا من وجهة نظر البوح.

الخلاصة التي قد نصل إليها من التعامل المختلف والمتدرج مع العلاقة بين المرأة والنص، نجدها علاقة توق وشوق بين الحصار والانتصار، حصار الذات والانتصار لها، الانتصار بالحكي والبوح وفضح هيبة الرجل أو المجتمع أو الأسرة أو العادات والتقاليد، أو كل ما يضع المرأة بين قوسين وجب عليها قضاء عمرها بينهما حتى تكون مقدرة وذات شأن إلى حد ما.

هناك نساء تحولن بحكم القهر إلى حارسات لمملكة الرجل المقدسة كما رأينا في نص عفاف السيد، في نموذج الأم التي باعت ابنتها للشيخوخة، وفي نماذج عديدة، أشهرها على الإطلاق نماذج النسوة في الصعيد المصري أو حتى في أي ريف عربي حين يستقبلن خبر مولد ابنة في مجتمع محافظ.

الحقيقة أن الكتابة للمرأة هي ممارسة فعلية للحياة، لأنه ربما لا يكون لها أحيانًا طريقة أخرى لممارسة فعل "الحياة".

اقرأ/ي أيضًا:

أنسي الحاج.. نصوص غير منشورة

رودونسون ووثنية الخضروات والفواكه