31-أكتوبر-2022
كتاب كلّ ما فعله دوستويفسكي

كتاب كلّ ما فعله دوستويفسكي

أوّل ما يلفتُ في تجربة طارق هاشم الشعريّة هو ذلك الانتقال من العاميّة المصريّة إلى الفصحى. العاميّة التي وقّع فيها مجموعات عدّة منها "احتمالات غموض الورد" و"ميت خيال" و"اسكندريّة يوم واحد" تركها وانتقل إلى قصيدة ربّما تكون أكثر سيولة وانجرافًا من العاميّة.

هذا ما توحي به قصائد مجموعته الشعريّة الجديدة "كلّ ما فعله دوستويفسكي" الصّادرة حديثًا عن "الدار الأهلية" في عمّان. تقعُ المجموعة في 90 صفحة من القطع الوسط وتتوزّع على 27 نصًا متفاوتًا في النّبرة والشّعريّة، ومتنوّعًا بين الضحك والإنشاد والاستغراق والحب والرّثاء القاسي، وعلاقة الكاتب وسيرته المتخيّلة مع كُتّاب مضوا أو رحلوا.

الشّعر عند طارق هاشم صورة فوتوغرافيّة مرّة وعجيبة ولا تتوانى عن التنكيل بتفاصيل القصائد ومروياتها، لا بل التنكيل بذاكرة الشّاعر عينها

 

المفتتح الذي يبتدأ به قارئ المجموعة هو مفتتح صادم وقائم على نزع القداسة عن الأب، فكيف إذا كان الأب ميتًا؟ يقول هاشم في قصيدته الافتتاحية: "ألقيتُ أبي من النافذة/ خرج مع الرّياح/ أبي لم يترك امرأة ولا رجلًا إلّا وحكى لهما/ عن المرأة الطيّبة التي يخونُها كلّ مساء". يُضيف بقوة وعنف ومفاجأة: "أنا أحملُ جثته لألقي بها خارج رأسي".  كيف يُمكن لرثاء أن يكون على هذه الشّاكلة؟ وبهذا الدّفق الشعوري المحيّر! قصيدة مثل هذه تجعل قارئها يعرف أن الشاعر موجود في نصّه، مشارك فعليًا في داخله.

لا يركنُ الشّعر عند طارق هاشم إلى مطالع مبهرة إنّما تبدأ القصيدة برواية أو أقصوصة مثلًا:" منذ ثلاثين عامًا/ ألقيتُ أبي من النافذة". انتهى. الشّعر هنا صورة فوتوغرافيّة مرّة وعجيبة ولا تتوانى عن التنكيل بتفاصيل القصائد ومروياتها، لا بل التنكيل بذاكرة الشّاعر عينها.

ينطلق الشّاعر، وبعناوين بسيطة للقصائد، وأغلبها موجزة ومختصرة بكلمة واحدة:" أبي – ماريا – صمتكِ – وجهكِ – جوع – نزهة – بلا وطن – غائبون فعلًا..". ينطلق من صورة شعريّة لا تستند على منطقيّة معيّنة. بل هي أقرب إلى التداعي الصّوري أو هي ترجمة للاغتراب والاضطراب وحالات الندم والتجاوز. يقول:" في المقهى/ يختبر الغائبون محبتهم/ بذكر من تركونا ها هنا"، كل هذه المغادرة تمت بهدوء العابر، ذلك العابر هو الشّاعر الّذي يلقي بتصوراته المسبقة عن العالم. تصوّرات متردّدة تتراوح بين إيجاب وسلب. في هذا الجوّ من الشّتات يصنع الشّاعر مجموعته.

تعرضُ القصائد نفسها داخل المجموعة على أنّها سيناريوهات متتالية، تقترح على قارئها نهايات ومشاهد حرّة متفلتة. قصائد بلا صاحب أو رفيق كأنّها تُكتب لوحدها دون أي تواصل مع العالم كقوله: "صار صوتي وحيدًا/ وبلا أسلحة".

لبعض شخصيات القصائد حياة يمنحها إياها بصيغة شعريّة:" هربت ماريا من رواية النفق/ أخبرها أرنستو ساباتو/ أن الراوي سيقتلها/ ماريا التي غافلت الراوي وهربت/ ملّت كونها أصبحت مجرد حيلة/ يعلّق عليها الراوي فشله". السّرد هنا مصاحب للقصائد يمشي جنبًا إلى جنب مع تفاصيل الشعريّة المطروحة.

لا يمكن للقارئ أن يسأل عن ثيمة أساسيّة للمجموعة، إنما يمكنه أن يجد رؤية ودربة تغلّفان القصائد وتعيدان الشّاعر إلى قصيدته كلّما حاول أن يشطّ. يمكنُ أن نضيف أيضًا صفة إلى القصائد هي الدوران، القصائد تدورُ من بدايتها إلى نهايتها. "المدينة التي خلّفتنا حطامًا/ جاهرت بجريمتها أمام الله/ كانت مزهوّة/ والسّماء صامتة". ليست وظيفة الشّعر في هذه المجموعة بالذات أن يقدّم حلًا لحالات الفقد والاغتراب والحساسيّات المتولّدة، إنّما في حدّه الأقصى يجمع الشّتات والشّظايا المتبقية.

"بلا وطن/ ينامُ شعبٌ/ خسرَ دموعه لأجل تفاحة/ لم تكن يومًا سوى حلم/ باعه العربان ببندقيّة/ ستصوّب فوّهتها إلى خاصرتهم". الفكرة تلقائية وواضحة تعكس حميميّة الشّاعر مع القضيّة التي يتحدث عنها وعن تجربته البالغة الخصوصيّة. قصائد خفيفة تعتمد على الرؤية، رؤية ما تبقّى من الحياة رازحًا تحت وطأة القصائد.

"أعرفُ هذه القصيدة جيدًا/ شاهدتها وهي تخرج من رأسي". هل يخفّفُ الشّعر صعوبة العيش؟ هل يجعل عيشنا أكثر طزاجة وسهولة؟ يمكنُ لقارئ هذا الشّعر أن يقول ذلك.