05-نوفمبر-2015

كأن السوري ليس إنسانًا! (أنور عمرو/أ.ف.ب/Getty)

تناولت العديد من وسائل الإعلام قصتي في الآونة الأخيرة، على هذا النحو: شاب سوري تعرض للاعتداء من قبل أحد عناصر الأجهزة الأمنية في لبنان. واختلفت تفاصيل القصة نسبةً لاختلاف الراوي. قرأتها جميعها تقريبًا بعد خروجي من المستشفى. الجميع عَلِموا بالواقعة، وكل إعلامي تناول الحادثة وفقًا للمنظومة السياسية التي ينتمي إليها. حملت القصة أبعادًا سياسية وطائفية، وعرقية غريبة، ولم يتوان البعض عن إضافة بعض التفاصيل لتزيين القصة بما يقتضي والاتجاه الذي يمثله، من دون إذنٍ مني، وغالبًا من دون أن يتواصلوا معي ليسمعوا القصة.

لا تعد كاريتاس المنظمة الوحيدة في لبنان التي تجرد الفلسطيني/السوري من إنسانيته

القصة كما وقعت

يمكن اختصار ما حدث بالآتي: شاب لبناني حاول التحرش بفتاة فلسطينية/سورية متزوجة. هربت منه إلى بيتها وهي تطلب منه الابتعاد قبل أن يراه زوجها. انتظر الشاب تحت المنزل قرابة الساعة، وعندما نزل زوجها بصحبة صديقة مشتركة له ولزوجته، قام الشاب اللبناني بضربه بعصا حديدية على رأسه وظهره وهو يشتم ديانته "الإسلامية" وجنسيته "السورية". كان الضارب محاطًا ببعض الأصدقاء. تجمع سكان الحي بعد ما يقارب العشر دقائق، وأبعدوا الشاب اللبناني واتصلوا بالشرطة والصليب الأحمر. التف الشاب بسيارته ليدهس السوري "الجريح". وصل رجال الأمن. أوقفوه وقيدوه، ولكنهم سرعان ما فكوا قيوده بعد أن أعلمهم عن صفته الأمنية. اتجهوا فورًا لاعتقال المجني عليه.

الصليب الأحمر بدوره حاول تخفيف الضغط الذي مارسه رجال الأمن على الشاب السوري وزوجته دون جدوى. أمام مستشفى الكرانتينا، لم تستقبل الحالة الإسعافية بسبب هوية المعتدي! أما مستشفى الجعيتاوي، فتركت الجريح ينزف حتى تأكدت من قدرته على تأمين ثمن العلاج، ماشي، أشياء مثل هذا النوع، فيما يخص المستشفيات، تحدث مع اللبنانيين أيضًا. داخل المستشفى حاصر رجال الأمن الشاب السوري وقرروا ترحيله فورًا إلى المصنع، متناسين وضعه الصحي، لأنه أصر على الادعاء، وحجتهم أن إقامته منتهية الصلاحية.

الإعلام ومنظمات المجتمع المدني

عن طريق أصدقاء لي في المنظمات التي عملت معها والصحف الإلكترونية التي كتبتُ لها، استطعت أن أؤمن تغطية إعلامية بغرض الحماية، خوفًا من العودة إلى سوريا ومن الانخراط في سلك العسكرة. وكان للإعلام الدور الأكبر في عدول رجال الأمن عن قرارهم بترحيلي إلى الحدود السورية رغم تمسكي بحق الادعاء، وحاولت الكثير من المنظمات تبني القضية، وقدموا الكثير من الوعود والأخبار المفرحة أثناء تواجدي في المستشفى. واختفوا جميعًا بعدها.
وهنا يجب أن نطرح السؤال: ما الذي كان سيحدث لو أن الحادثة وقعت لشخص آخر، لم يمنّ عليه الحظ بالارتباط بعلاقات شخصية مع العاملين في مجال الإعلام؟

التحقيق والقضاء

لم تكن قضية الإقامة غير المشروعة أقل أهمية من قضية الشروع بالقتل. والمحقق الخبير كان يرى بالانسحاب حلاً مناسبًا، ليحول دون القرار بترحيلي. المحقق لم يكن منحازًا، هذه حقيقة. إلا أنه أخبرني بالنتيجة التي ستنتهي إليها القضية: سيسجن المعتدي لمدة لا تتجاوز العشرة أيام (بحكم دوره الأمني) وسأُرحل أنا إلى سوريا. أخبرني بذلك ورفضت التنازل عن الادعاء، وحماني هو بدوره من بعض الضغوطات التي مارسها بعض رجال الأمن الذين كانوا موجودين بصفة غير رسمية، حيث كانوا يرافقون أهل المدعّى عليه.

وبعد الخروج من المشفى أكمل المحقق إجراءاته، وفي المواجهة اعترف المدعى عليه بأنه هو وحده من قام بالاعتداء بالضرب، ولم تكن مشاجرة كما ادعى في بداية التحقيقات. ولكنه أعطى هو وأبوه بعض الأسباب المتناقضة لإقدامه على الفعل الإجرامي، وهي:

- ادعاء المعتدي بأنه بدأ الشجار بعد أن شتمتُ أخته!
- أرجع الأب سبب المشكلة لارتداء زوجتي "الشورت" في حي مار مخايل!
- اتفق أبو المعتدي مع أحد المتطرفين من عائلتي أن ما حدث هو نتيجة طبيعية لسكن "عائلة مسلمة" في حي "مسيحي"!
وأخيرًا بادرت المحامية، ديالا شحادة، لتولي بالقضية، والقضية ستستمر إلى أن ينال المجرم العقاب القانوني الذي يستحقه. حتى ولو كان عشرة أيام.

الإعلام والمنظمات مرة أخرى

بعد أن خرجت من المشفى تفاجأت بالطريقة التي تناول بها الإعلام القضية، حيث حملت القضية أبعادًا متباينة، أهمها:

قضية الكره اللبناني للسوريين. نعم، قام المعتدي بشتم جنسيتي وانتمائي، ولكن يجب أن لا ننسى أن الذين حموني ودافعوا عني أيضًا، كانوا لبنانيين. والحي الذي أسكن فيه وفيه جيران طيبين هم لبنانيين. والصليب الأحمر الذي أنقذ حياتي هو الصليب الأحمر اللبناني. وأن المحامية التي تبرعت لحمايتي قضائيًا هي محامية لبنانية. لذا لا يمكن أن نتحدث عن قضية الاضطهاد اللبناني للسوريين في هذه الحادثة كما فعل بعض الإعلاميين. ومن الأجدى التحدث عن ظلم القانون اللبناني للسوريين النازحين من بلادهم، فتعقيد الإجراءات القانونية لإقامات السوريين تلعب الدور الأكبر في قضية الإحساس السوري بالاضطهاد.

قضية المعارضة السورية وحمايتها. حيث حاول البعض التركيز على جانب الهرب من سورية واللجوء الاضطراري في لبنان وحملوا النظام السوري مسؤولية الحادثة. نعم، إن قرار التجنيد الإجباري في سورية دفع آلاف الشباب إلى الهرب، ولكن لا يمكن تحميل النظام السوري مسؤولية هذه الحادثة. فهي حادثة فردية.

ومن ناحية المنظمات، فلم يقدموا شيئًا يذكر. ويبدو أن دورهم كان يقتصر على دعمي نفسيًا أثناء وجودي في المستشفى.

ويبدو أن المشكلة في بعض هذه المنظمات أنها نسيت أنها قائمة لأغراض إنسانية، فمؤسسة كاريتاس مثلًا، عرضت التكفل بمصاريف العلاج ولكنها لم تدفع أي شيء لأن الحادث أصبح قديمًا (بعد خمسة أيام)، وعرضت أن تقدم مساعدة طبية في الأمور التي لم تعالج في المستشفى (الجعيتاوي) ولكنها اعتبرت كسور الأسنان ومعالجتها "كماليات"، وعرضت تقديم الحماية من خلال السكن والتسجيل بالأمم ولكنها تملصت وطلبت مننا المحاولة مع منظمة أخرى، بعد أن علمت أني غير مسجل بالأمم وأن الزوجة فلسطينية/ سورية، وكأن الفلسطيني السوري لا يعد إنسانًا.

ولا تعد كاريتاس المنظمة الوحيدة التي تجرد الفلسطيني/السوري من إنسانيته، بل إن الطريقة التي يتعامل معها العالم بأسره مع هؤلاء (الشتات) لا تليق بالإنسانية، فرغم ظروف الحرب القاهرة بسورية وموت المئات بمجاعة مخيم اليرموك في دمشق، تقفل جميع الدول أبوابها في وجههم، وتكتفي المنظمات بمحاولة إرسال سلل غذائية لمخيم اليرموك والتباهي بأمجادها. وللمناسبة، تبين أنها مساعدات منتهية الصلاحية، حالها حال كثير من الشعارات الفضفاضة. ولعل أكبر هذه الشعارات هو "منظمة إنسانية".

اقرأ/ي أيضًا:
لبنان كما لا نعرفه.. جرائم بمساحة الوطن
لا تسرع فـ"القضاء العسكري" أسرع!