16-نوفمبر-2015

الفاعلون من غير الدول؟ (صول لوب/أ.ف.ب)

إذا شئت الوقوف على تعريف محدد، جامع ومبين لما يسمى بـ"الفاعلين من غير الدول" أو "Non-State Actors" من الأدبيات السياسية العربية، فلن تجد إلا ترجمات رديئة جدًا للنصوص التي خطها الأكاديميون الغربيون، فلا تكاد تقع على جملة سليمة البنيان، تامة المعنى، ولا ترى فقرة في بحث من البحوث، أو دراسة من الدراسات، إلا وكانت مذيلة برقم يحيلك إلى مصدرها، وليس هذا من نزاهة أصحابها، لا سمح الله، ولكن من فقرهم المدقع في أن تكون لهم مفاهيمهم الخاصة، أو رؤاهم المستقلة، أو حتى في جرأتهم على نقد ما أتى به "الخواجة" أو الزيادة عليه. ويا للعجب، ينالون درجات الدكتوراه على مجهوداتهم المتواضعة في الترجمة والتجميع، ثم يأتي من يتهم الأنظمة العربية بأنها لا ترعى الأكاديميين ولا تشجع المفكرين.

الفاعلون من غير الدول هم "أي كيان يجاري أو ينافس الدولة على سيادتها"

على كل، ليس موضوعنا "المترجمون بدرجة أستاذ جامعي" وإنما موضوعنا هو ما ذكرنا، ولأن ما ذكرنا هو أننا لم نجد تعريفًا جامعًا ومبينًا لهذا المفهوم، فقد آثرنا أن نعرفه بأنفسنا، فإن أحسنا، فبها، وإن لم نحسن، فلسنا مترجمين، ولسنا أساتذة! وتعريفنا أن الفاعلين من غير الدول هم "أي كيان يجاري أو ينافس الدولة على سيادتها." وإذا كانت السيادة هي الحق في تمثيل الجماعة الوطنية، وسن التشريعات، وفرضها جبرًا، وصك العملة، ورسم التوجه الاقتصادي العام، وسياسة العلاقات الدولية، واحتكار القوة المسلحة، واستقلال إرادة السلم والحرب.. إلخ. فإن كل كيان امتلك المقدرة على تعطيل الدولة من ممارسة هذه الخصائص، أو التأثير عليها، كلها أو جزء منها، مستقلًا عن الدولة تمام الاستقلال، أو بعضه، سالكًا سبلًا قانونية، أو غير قانونية، يندرج تحت هذا المفهوم.

وبداهةً، فإن وجود الفواعل من غير الدول، يتوقف على وجود الدول، فإذا انتفت العلة، انتفى الوجود، لذا فإن السبب الأساس الذي تنبثق من بعده كل الفروع، لنشأة هذه الفواعل، هو قصور نظرية الدولة الحديثة، في تحقيق العدالة والحرية والكفاية للإنسان، كل الإنسان، من خلال الدولة القطرية، والتي نشأ عنها بالضرورة توزيع غير عادل للثروات، أفضى إلى استئثار حلف (المال – القوة – الدين) ¹بالسلطة، في طوره الأول، ثم إلى عدم تكافؤ في القوة ما بين الدول، وأفضى كذلك إلى الاستعمار، وحاكمية المستعمر على كينونة الدول التي أنشأها على خطته، في طوره الثاني، ثم إلى ذهاب الاستعمار المباشر، واستقلال مخلفاته من تلك الدول، وتكوّن نظام الحوكمة العالمية في الطور الذي نحن فيه الآن.

وبناءً عليه فإن ماهية الفاعل من غير الدولة تتوقف كذلك على ماهية الدولة أو الإقليم الذي ينتمي إليه، فإذا كانت الدولة ديموقراطية، لا تعاني من مشكلات قومية، أو طائفية أو غيرها، وكانت قوية عسكريًا واقتصاديًا، فإن الفواعل فيها عادة ما ستتخذ شكلًا اقتصاديًا قانونيًا، كالشركات متعددة الجنسيات، أو سياسيًا كجماعات الضغط، دون أي موازاة أو منافسة مباشرة للدولة في أمور كحق تمثيل الجماعة الوطنية، أو احتكار القوة المسلحة، أو التشريع والسياسة الخارجية ما لم تتقاطع هذه الأمور مع مصالحها الاقتصادية طبعًا. أما إذا كانت دولًا، كالتي عندنا، فبالتأكيد لن تتوقف فاعلية هذه الكيانات عند حد الاقتصاد، بل ستتطاول على السياسة والقوة المسلحة واستقلال القرار الوطني وكل شيء.

تتوفر في البلدان العربية كافة الظروف اللازمة لقيام الفواعل من غير الدول، حتى أنها تتناثر من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، فالدول العربية في عمومها تعاني من اضطراب في هويتها، وتقاطعات حادة في دوائر الانتماء، بالإضافة إلى كونها دولًا فاشلة ضعيفة، أنشأها المستعمر على عينه، دونما أن تمتلك أدنى مقومات الدولة التي يعرفها هو، فلا هي دول ديموقراطية، ولا هي دول قوية عسكريًا، ولا قوية اقتصاديًا، وما يفرق بينها وبين شعوبها أكثر مما يجمعهم.

فلا تكاد تجد دولة منها إلا وتعاني من هذه الأمراض كافة، ففي الدولة السورية نظام مستبد، ضعيف عسكريًا، فاشل اقتصاديًا، مضطرب مذهبيًا، وطائفيًا، يطفو على بركة من الأزمات القومية، حتى إننا نحتار كيف تكون سوريا دولة قومية عربية، ونصف سكانها² من الكرد أو التركمان أو الشركس أو الأرمن أو الآشوريين، ولا نعرف كيف تكون دولة إسلامية ويحكمها نظام علماني بعثي، ولا نتقبل أن تكون دولة علمانيةً وهي لا تراعي الأقليات الدينية الدرزية والمسيحية والإيزيدية، وحليفها الأول وسيدها معمم، ولا نفهم كيف تكون دولةً سنية والسلطة فيها من أصول علويةً، لا نفهم أساسًا مالذي فرق دمشق عن بيروت وحيفا، بينما جمعها بالحسكة والقامشلي وعفرين!

لذا فقد كان من الطبيعي جدًا أن يبحث الكرد عن كيان يمثلهم، ويرعاهم، وأن يبحث الطامحون إلى الحرية عن كيان يضمن لهم حقوقهم، وأن تنغلق الأقليات الأخرى على نفسها، حتى تنعزل كل أقلية عن الأكثرية، وعن بقية المكونات. ولأن نظام الحوكمة العالمي ولد معيبًا، ولأن المستعمر كان أوقح من أن يحسب حسابًا لهؤلاء الناس، فقد دعت الضرورة للتعامل مع هؤلاء الفاعلين، ولو من باب خلفي، باعتبارهم ممثلين عن جماعة من الناس لا تمثلهم دولتهم، يمتلكون الفاعلية والنفوذ والقوة وقطعًا من الأرض وأنهم يبحثون عن الشرعية والاعتراف بحقوقهم.

السبب الأساس لنشأة "الفواعل من غير الدول" هو قصور نظرية الدولة الحديثة، في تحقيق العدالة والحرية والكفاية للإنسان

إيران، أفضل الدول الإقليمية التي تفهم هذا الكلام، فحالفت هؤلاء الناس، حتى غدت بين عشية وضحاها تتحكم في أربع عواصم عربية، ممتلكة من النفوذ في اليمن عبر الحوثيين ما لا تمتلكه دول الخليج مجتمعة، وفي العراق عبر المليشيات ما لم تمتلكه أمريكا بالاحتلال والجيش، وفي لبنان عبر حزب الله ما لم تمتلكه الدولة اللبنانية، أو طائفة من الطوائف. والسؤال بعد كل هذا الكلام: كيف فشل الإخوان المسلمون أن يكوّنوا دولة، ثم فشلوا مرة أخرى أن يكونوا فاعلين من غيرها رغم توافر كل الظروف الموضوعية التي تؤهلهم لذلك في كل الدول التي وجدوا فيها؟


¹- أهملنا المقدمات عن أطوار الدولة الحديثة، وعلاقة ثورات الصناعة والمواصلات والاتصالات واكتشاف النفط ونشأة العلم الحديث بتلك الأطوار، كما أهملنا المقدمات عما قبل الدولة الحديثة، ومراحل تطور الجماعات الإنسانية، وأسباب رئيسة أخرى كدور الجنس والزراعة واللغة في تكوين الروابط القبلية أو الشعبية، ودور الخرافة والأخلاق والدين والقانون، والخبرات التي اكتسبتها كل جماعة بمعزل عن الأخرى، وأنماط الملكية .. إلخ نظرًا لأننا نكتب مقالًا لا كتابًا.

²- على سبيل المبالغة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لا يموت حق وراءه القمم العربية

عرب أمريكا.. يا نقمة النسيان