12-يونيو-2023
 "كتاب من السماء" لـ شو بينغ/ الصين

"كتاب من السماء" لـ شو بينغ/ الصين

هذه قولة لعادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين. هي عبارة أسترجعها كلّما طُلب منّي أن أكتب مقالًا لصحيفة أو مجلّة يحدّد لي ناشرُها عدد الكلمات المطلوبة بأكبر دقّة ممكنة. هذا التّكميم المكاني نلحظ نظيره الزّماني على شاشاتنا الصغيرة عندما يُشعِر مقدّمُ البرنامج ضيفه بضرورة احترام الحيّز الزّمني المخصّص، فيحثّه على الإيجاز، ويطلب منه، لا اختصار المعاني، بل التّضحية ببعضها ربحًا للوقت، فإن هو بالغ وأصرّ، "جاد عليه بدقيقتين" كي يعبّر عن "كل ما تبقّى في جعبته".

ينطلق التّحديدان كلاهما من أنّ المعاني يمكن أن تُحصر، وأنها، شأن أيّ منتوج من منتوجات العصر، ينبغي أن تخضع للتّكميم، وتُحتسب بالدقة التي يسمح بها ضيق المكان وتقلّص الزمان. المهمّ أن تُنجز "بأقلّ كلفة"، وأن تتمّ من غير أن تكون على "حساب" غيرها، فتفسح المجال لـ"منتوجات" أخرى "تزاحمها".

الإيجاز فضيلةُ أكبر الأدباء والمفكرين، فهم غالبًا ما يتميّزون بسنّ أسلوب مركّز يعتمد "بلاغة التكثيف" التي تتطلب من العبارة ألاّ تُبنى إلا لكي تؤدّي المعنى

قد يرى البعض في هذه اللغة الاقتصادية وهذا التّكميم فضيلة لكونهما يحدّان من اللّغو والثّرثرة، ويجنّبان التّكرار والاجترار، ويخفّفان من الإسهاب الذي يُبعد المتحدّث أو الكاتب عن التّركيز، فيهدر الطاقات، ويشوّش المعاني، ويجرّ إلى الغموض. وليست نادرة تلك الأمثلة التي تشهد على أنّ الإيجاز فضيلةُ أكبر الأدباء والمفكرين، فهم غالبًا ما يتميّزون بسنّ أسلوب مركّز يعتمد "بلاغة التكثيف" التي تتطلب من العبارة ألاّ تُبنى إلا لكي تؤدّي المعنى. ولنا في أسلوب نيتشه، النّثري والشعري، خير مثال على ذلك. أليس هو من كتب: "إنّ مرماي أن أقول في عشرة جمل ما يقوله غيري في كتاب... ما لا يقوله في كتاب بأكمله"؟

غير أنّ تحديد عدد الكلمات لا يكون دومًا تقليصًا، فقد يدفع، على العكس من ذلك، إلى الإسهاب. عندما يطلب منك الناشر عددًا من الكلمات يفوق بكثير ذاك الذي يتطلّبه الموضوع، تضطرّ إلى الإسهاب، والتكثير من الاقتباسات، بل وإلى التكرار غير المنتج في بعض الأحيان. مع ما يتولّد عن ذلك من "خروج عن الموضوع"، وتشتيت لذهن القارئ.

لا يعني هذا أنّ الكاتب، عندما يتقيّد بالتّركيز والإيجاز، فحرصًا منه على تقليص عدد الكلمات، إذ إنّه، من حيث هو كاتب، لا ينشغل مطلقًا بهوس التّكميم، وهو لا يبتغي "إنجاز العملية بأقل كلفة"، ولا يحرص على الاختصار "ربحًا" للوقت و"اقتصادًا" للمكان، وإنّما احترامًا للّغة، وحرصًا على ألا تذوب المعاني في الاستطرادات الزّائدة. التكثيف والإيجاز هنا فضيلتان بلاغيتان، وليسا قيمتين اقتصاديتين. لا ينبغي أن نفهم من ذلك فحسب اعتناء بالشّكل، ومراعاة لجمال الأسلوب، ودقة العبارة ووضوحها، وإنّما أيضًا حرصًا على قوّة المضمون. ذلك أنّ المعنى عندما "يلبس" عبارة مكثّفة يزداد قوّة، بل إنّه يوظّف الشكل تأدية لمحتواه. هاهنا يغدو الشكل محتوى، ويصبح التكثيف لا خاصية العبارة، وإنّما سمة الكائن، إنه يتّخذ بعدًا أنثلوجيًّا.

ما ينبغي التّأكيد عليه في هذا السّياق هو أن الهوس "التّكميمي" والاهتمام "الاقتصادي" بالشكل ليسا، في نهاية الأمر، إلا طريقًا مقنَّعًا للاستخفاف به، وربما هو أيضًا استخفاف بالمضمون ذاته. ذلك أن الإيجاز الذي يبتغيه لا شأن كبيرًا له بالدّلالة، فهو لا يهمّه كثيرًا لا المبنى ولا المعنى ولا العلاقة بينهما. ما يريد أن "يربحه" من وراء العملية، ليس فائضًا يكون في خدمة المعنى، وإنّما "اقتصاد" الكلمات و"توفير" الوقت، و"ربح" الفضاء، حتى وإن اقتضى الأمر إهمالًا للشكل و"تقشفًا" في المعاني وتضحية بها.