07-يونيو-2023
هاملت في تصميم لـ نازايرو جرازيانو/ إيطاليا

هاملت في تصميم لـ نازايرو جرازيانو/ إيطاليا

في مقدمة رواية "كائن لا تحتمل خفته" يطيل ميلان كونديرا التأمل في مأزق بطله توماس. ها هو الشاب يطل من نافذته إلى الجدار المقابل، تتنازعه أفكار متناقضة، وتمزقه رغبتان لا تقوى إحداهما على دحض الأخرى وإسكاتها. هل يدعو تيريزا إلى الانضمام إليه ليعيشا تحت سقف واحد، حبيبًا وحبيبة.. زوجًا وزوجة، معًا وإلى الأبد؟ أم يتركها بعيدة لتتابع حياتها، خادمة مسكينة في مشرب جعة بائس؟ هل يحبها أم يتوهم أنه يحبها؟ وإذا كان هو الحب فهل يجب أن يتوج بالاقتران الأبدي؟ هل يضحي بحبه من أجل حريته أم العكس؟ هل يريدها أن تنضم إليه أم لا؟

كان يلوم نفسه لأنه لا يعرف، ولا يقوى على اتخاذ قرار، لكنه اقتنع أخيرًا أن عدم معرفته هو أمر طبيعي جدًا. "لا يمكن للإنسان أبدًا أن يدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة".

لا تزال مونولوجات هاملت المعذبة وحواراته المتسائلة تملأ آذاننا، وكذلك تلك العبارة التي صارت خالدة: "ألهذا الحد يجعل منا التأمل جبناء؟!"

 

أيهما الأفضل، العيش مع تيريزا أم البقاء وحيدًا؟ "لا توجد وسيلة لنتحقق أي قرار هو الصحيح، لأنه لا سبيل لأي مقارنة. كل شيء نعيشه دفعة واحدة، مرة أولى ودون تحضير. مثل ممثل يظهر على الخشبة دون أي تمرين سابق. ولكن ما الذي يمكن أن تساويه الحياة إذا كان التمرين الأول هو الحياة نفسها؟".

وتوماس ليس هو الأكثر حيرة بين من نعرفهم. هناك هاملت الذي لا يزال وقع خطواته المتوترة يتردد إلى اليوم، ولا تزال أصداء حواراته المتسائلة ومونولوجاته المعذبة تملأ آذاننا، وكذلك تلك العبارة التي صارت خالدة: "ألهذا الحد يجعل منا التأمل جبناء؟!".

وبالمقابل فثمة أناس كثر من حق توماس وهاملت أن ينظرا إليهم بعين الحسد. أولئك الذين يولدون وكأنهم يعرفون سلفًا كل الإجابات الحاسمة عن كل الأسئلة التي تطرحها عليهم الحياة. مزودون ببوصلة من نوع ما تقودهم مباشرة إلى أهدافهم، مبرمجون لكي يكونوا قادرين على الاستجابة لشتى الاحتمالات والخيارات التي سيقفون أمامها..

ربما يكمن التفسير في أنهم ينتمون مبكرًا إلى عقيدة، أيديولوجيا ما، تحضّر لهم عددًا وافرًا من الإجابات الجاهزة، وتعفيهم من الحيرة، إذ إنها تكون قد فكرت نيابة عنهم، وأسكتت القلق منذ وقت بعيد قبل ولادتهم، وما عليهم إلا أن يؤمنوا بصوابها الدائم المطلق، ويثقوا بكل أجوبتها.. ليعيشوا مطمئنين في ظلالها.

وهناك حيلة أخرى، يعرفها، ويجربها، كثير من البشر: أن يقتطعوا جزءًا صغيرًا من الحياة، ركنًا خاصًا بهم، يعزلونه عن تيارات المحيط الصاخبة وعواصفه الهوجاء، حتى أنهم يبقونه بلا نوافذ كي لا يطلوا على الخارج المترع بكل ما هو مقلق. يرتبونه جيدًا ويؤثثونه وفق أمزجتهم، ويحرصون على التحكم بكل تفاصيله.. إنهم، وإذ يحكمون السيطرة على جزء من الحياة، فهم يحكمون السيطرة على الحياة برمتها!

أما الذين لا يتقنون هذه الحيلة، أو أي حيلة أخرى، والذين لا يسعفهم الحظ أو المزاج في العثور على منظومة الإجابات الكلية الجاهزة.. أولئك يظلون أسرى للقلق الفتاك، والحيرة المدوخة، ويشعرون أنهم في خفة الريشة وسط زوابع الواقع التي لا تهدأ..

وثنائيات مثل: الأذكى والأقل ذكاء، الأنجح والأفشل، الصواب والخطأ.. لا تنجح في اجتراح توصيف دقيق للمواقف من القلق أو إسكاته.. القدرة على تطويقه أو عدمها..

نولد جميعًا لنجد أنفسنا في هذه الحفلة الغرائبية التي لم يستشرنا أحد في إقامتها أو في حضورنا إليها. منا من يغادر بإرادته مقررًا تحديد موعد الانصراف بنفسه، ومنا من يبقى قلقًا مطلقًا الأسئلة التي بلا إجابات عن نفسه وعن كل ما يحيط به.. ومنا من يشمر عن ساعديه ليحاول ترتيب الحفلة وتوجيهها وفق مزاجه، ساعيًا إلى التسلية عن نفسه ريثما تحين ساعة انصرافه غير المعلومة..

كلنا في الحفلة ـ الورطة نفسها، وبالتالي فجميع خياراتنا، ربما، تكون مشروعة.