26-نوفمبر-2015

ريف إدلب 2012 (Getty)

من بين المشاهد التي لا تبرح ذاكرتي في مظاهرات إدلب، مشهد مجموعة من الشبان، كانوا يومها في الخامسة عشرة من عمرهم، أكثر أو أقل بقليل، فبينما كان منظمو المظاهرة، التي كان تعدادها يبلغ ثلاثة آلاف متظاهر، على أقل تقدير، يهتفون هتافات موحّدة، كانت هنالك مجموعة مؤلفة من قرابة الـ 200 شاب، يهتفون هتافًا مغايرًا، بأعلى أصواتهم، وبطريقة استعراضية للفت انتباه الناس.

لا يستطيع الشاب السوري تفادي المخاوف من تصفيته على أحد الحواجز، لمجرد أن تسريحة شعره لم ترق للعسكري المناوب

كانت خطواتهم مليئة بالثقة إلى حدّ العنجهية، ونظراتهم واثقة بأنهم قادرون على انتزاع الأضواء من بقية الجمع الهزيل، الذين لم يحاولوا أن يدخلوا في سجال عنيف معهم، خوفًا من ردّة فعلهم الطائشة، وهم المعتدّون بشبابهم وعافيتهم. يومها استنكرنا المشهد استنكارًا كبيرًا، واعتبرنا أنهم يحاولون شق الصف، وأن قيادتهم لن تكون سهلة إلى الحدّ الذي نتصوّره، وأنه لا إمكانية للجم جموحهم. في الواقع، أعتقد أنهم حسنًا فعلوا، وأننا كنا مخطئين، فكلّ الذين كانوا مُنظمين لتلك المظاهرة، انتظموا في سرب غادر البلد خوفًا من القتل تحت التعذيب، ومنهم من اعتقل وعاد إلى ذويه جثة هامدة، بعد أن لقي ما لقيه من تعذيب في أقبية الموت. 

حين اقتحمت قوات الأسد مدينة إدلب، في شهر آذار/مارس 2012، كان هدفها الأول هذه الفئة العمرية من الشبان، فمنهم من تمت تصفيته ميدانيًا بحجة أنه فارٌّ من التجنيد، أو أنه من المسلحين، وكثيرون منهم اعتقلوا وعادوا في توابيت، والبعض حتى جثته لم تعد، بل اكتفى القتلة بالاتصال بذويهم، ودعوتهم لاستلام بطاقات هوياتهم الشخصية. أما من نجا منهم فقد هام في البراري المتاخمة للمدينة ملتحفًا السماء. ثم راحوا يقومون بالهجوم على حواجز النظام بأسلحتهم البسيطة المكونة من بندقية روسية، أو "بومباكشن"، أو قاذف "آر. بي. جي" في أحسن الأحوال، حتى أنه في إحدى العمليات التي استخدم فيها النظام الطيران لتمشيط المزارع المحيطة بالمدينة، أسفرت عن مقتل قرابة 50 شخصًا، جلّهم كانوا من هؤلاء الشباب الذين لم تكن أعمارهم تتجاوز العشرين عامًا، ولكنهم دونًا عن غيرهم، قرروا المضي في حربهم غير المتكافئة مع نظام لم يأل جهدًا في ابتكار الوسائل لقتلهم.

لم يكن أبناء مدينة إدلب هم الوحيدين، إذ أن معظم المدن السورية الواقعة تحت سيطرة النظام، تكاد تكون قد خلت من الشباب في مثل أعمارهم، لدرجة أن النظام صار يلتجئ إلى تجنيد الإناث لتلافي هذا النقص. لا يدري الشاب متى يتم تمزيق وثيقة تأجيله والزج به في تابوت يسمى الجيش، أو كيف سيجبر للتطوع مع ميليشيات الدفاع الوطني، ولا يستطيع تفادي المخاوف من تصفيته على أحد الحواجز، لأن تسريحة شعره لم ترق للعنصر المناوب! ولهذا فقد انخرطوا جميعًا في الثورة، كل بحسب اختصاصه، فمنهم من حمل السلاح، ومنهم من انضمّ إلى الكوادر الإسعافية، وآخرون كان سلاحهم الكاميرا، غير أن آلة القتل التي يديرها الديكتاتور تعتبر الكاميرا سلاحًا فتًاكًا، ولهذا يرون في الإعلاميين صيدًا ثمينًا!

منذ بداية الثورة، عمل النظام على تشويه صورة الإعلاميين الميدانيين، واختلق الأكاذيب لإضعاف مصداقيتهم

منذ بداية الثورة، عمل النظام على تشويه صورة الإعلاميين الميدانيين، واختلق الأكاذيب لإضعاف مصداقيتهم، وجنّد مخبريه وزبانيته لزرع الشرائح من أجل استهدافهم من قبل الطيران. كل هؤلاء الشباب، وضعوا الموت نصب عينيهم، وأخطأهم في مرات كثيرة، لكنهم ما زالوا ماضين في درب الثورة، وما زالوا يشهرون عدساتهم في وجه قاتل، يفقدهم كل يوم واحدًا من أصدقائهم. في الأمس القريب كتب الجميع تهنئة بسلامة وسيم العدل، أحد إعلاميي محافظة إدلب، ليستشهد بعد أقل من أسبوعين، وهو ما يزال يضمّد جراح يده المصابة.

محمود اللوز هو الآخر سقط شهيدًا، وهو يغطي إعلاميًا الهجمة الشرسة لنظام الأسد على بلدة تيرمعلة الحمصية، والتي لم تتوقف منذ قرابة الأسبوعين، فقدت خلالهما البلدة خيرة شبابها، واليوم تنعي تلبيسة شهيدها الإعلامي مرهف صويص، الذي استشهد مع كامل أفراد أسرته. وقبلهم العشرات من الشبان الذين هددوا عرش الديكتاتور بكاميراتهم فسلبهم حياتهم، وأمعن في قتلهم وتشريدهم والتنكيل بعائلاتهم، ولهذا استحقوا أن يكونوا البوصلة الحقيقية لسوريا المستقبل.

اليوم أجد أنه قد حان الوقت لأعتذر من هؤلاء الشبان عن كل ما نسبناه إليهم من صفات سلبية كالصلف وعدم احترام الكبار، متناسية أنهم لو امتثلوا لأوامر من كنا نحسبهم كبارًا، لما كانت هنالك ثورة، وأن "الكبار" تعاملوا معهم على أنه "حطب هذه الثورة"، وأن كثيرًا من "الكبار" ينقاد وفق المصالح. وحدهم هؤلاء الشبان من لا تدجّنهم الإيديولوجيات، ولا ينقادون وراء مبادرات تعيد إنتاج النظام معتمدة على المال السياسي، هم وحدهم من يستحق البلد، فتغريدهم خارج السرب، كشف لنا كم نحن جيل مدجّن، وفاقد للذاكرة، وكم هم جيل مصمم على أن يكون مختلفًا عنا.