26-ديسمبر-2015

جان كريستوف روفان

يشير الكاتب الفرنسي جان كريستوف روفان في نهاية روايته "الطوق الأحمر" (ترجمة ريتا باريش، دار ممدوح عدوان) إلى الجوهرة النادرة التي وهبته إياها الحياة، ليصنع منها مدماكًا لصرح روائي. وهي قصة جد المصور الذي رافقه إلى الأردن في 2011. عاد الجد بوسام فيلق الشرف من حرب 1914 وارتكب تحت تأثير الشرب فعلًا مخالفًا كان من المقرر أن يُحاكم على إثره. يهدي جان كريستوف صديقه رواية آسرة، ممسوكة بمنطق الاستيعاب البعيد لصدمة الحرب. يهديه الرواية آسفًا، إذ لم يمهل الموت صديقه كي يرى قصة جده رواية تعاند العنف الأعمى وتقاوم الرغبات البدائية.

انخراط بطل "الطوق الأحمر" في الحرب من أجل الدفاع عن النظام في وجه الهمجية، ينّم عن سوء فهم مريع

يؤجل روفان كشف الفعل الذي لا يصدق والذي أقدم عليه بطل روايته جاك مورلاك إلى الصفحات الأخيرة، موقعًا القارئ في كشف مشوق ومتتالٍ لسلسلة من الحقائق، كانت تصنع نوعًا من الرجال الذين "عاشوا الكثير من الفظاعات حتى أنه لا شيء، ولا أحد يستطيع أن يرهبهم". علاوة على ذلك، فإنّ مدرستَي جاك كانتا "الكتاب والحرب" ما جعله يتناقض على نحو خلاق. يسعى إلى أن يُدان في المحاكمة التي يتعرض لها، فقط لكي يوصل رسالته رافضًا مساعدة المحقق لانتييه. لا سيما أنّه قد فعل فعلته من أجل الذين يرسلون الناس إلى الحروب أو الذين يذهبون إليها بأنفسهم من أجل الذين يؤمنون بهذا "الهراء: البطولة الشجاعة الوطنية". حتى يوصلنا الكاتب ببنائه الشائك والحساس إلى حقيقة مربكة، مفادها أنّ انخراط مورلاك -ويهمنا هنا أن نراه نموذجًا- في الحرب من أجل الدفاع عن النظام في وجه الهمجية، ينّم عن سوء فهم مريع. إذ ويكشف الراوي: "البشر هم وقود النظام، إنّه يستهلكم ويطحنهم".

يؤخذ القارئ بالسر الذي يربط الكلب غليوم مع صاحبه مورلاك في الصفحات الأولى، إذ متى ذهب إلى الحرب، يتبعه كلبه من المزرعة إلى محطة القطار، فالميناء، إلى كافة المعارك التي اشترك بها. اكتسب ندوبًا وخاضَ بطولاتٍ، وها هو ينبح حتى يُنهك بالقرب من السجن الذي يقبع فيه مورلاك، بحراسة دوجو الذي يمنعه ضميره المهني من الابتعاد وطرد الكلب. عدا عن التساؤل الغريب، إن كان من حقهِ إطلاق النار، بعد انتهاء الحرب، ولو على كلب؟! 

لكن، بتتالي الفصول سينشغل القارئ عن السر العجيب الذي يقود النص في الخفاء، بالأفكار التي تُبنى وتشفّ عن رؤية مختلفة لعدد كبير من الأطروحات النمطية: الحرب، النظام والثورة بالمعنى الفوضوي أحيانًا والإنساني، بالمطلق، في مرات أخرى. الكبرياء والوفاء، وهما العلامتان الفارقتان بين الرجال والكلاب الذين تحركهم الغرائز. 

استطاع المحقق سحب القضية من كونها قضية رأي عام، إلى بعدها الخاص والحميمي حيث يجد مورلاك نفسه أمام تداعٍ سريع لجميع حججه، أمام حقيقة صارخة وصل إليها المحقق باستنتاجات ذكية، تقول بأنّ مورلاك أدى تمثيلية كي يعاقب حبيبته فالنتين على خيانة مفترضة أثناء وجوده على الجبهة. 

النصر الوحيد الذي يستحق الاحتفال هو النصر على الحرب وعلى الرأسماليين الذين أشعلوها

إذن، كلّ ما فعله كان لإيصال رسالة إلى حبيبته، هكذا أعاد المحقق مورلاك إلى حجمه بعدما أصبحت قصته فتيلًا مؤرقًا للعسكر وتجار السلاح إذ وعن لسان أهالي القرية: "طيلة أربع سنوات، لم يتوقفوا عن سوق أبنائنا إلى حتفهم. لكن الحرب قد انتهت الآن. ولن ينجو المحافظ والدرك وكل المستفيدين الكبار من المساءلة. سيكون ذلك من سوء حظهم إن ثبتت إدانة الرجل".

ملفت ذلك الرجل الذي صنعه كريستوف، لقد ساعد كائنًا على التشكّل، "قزمًا تنهشه طموحات عملاق" قبل أن يكتشف بدفع حثيث من المنطق العام في الرواية، بؤس الرجال البسطاء عندما يمتلكون معرفة تقودهم إلى التفكير بتغيير العالم، ولو ذهبوا، هم أنفسهم، أضحية مجانية لذلك. لكن، ملفت أيضًا فهم الكاتب المذهل لوظيفة الرواية كفن مقاوم للأيدلوجيا، بالمعنى الوظيفي. ذلك الفهم الذي جعل من النص متراسًا فائق الجمال للذين يهتمون بالضحايا أنفسهم، لا بالفكرة التي يقتلون من أجلها. للذين يؤمنون بالحياة البسيطة لأسرة سعيدة في منزل ريفي، لا بالحياة بين الخنادق، عبر القتل وفيه، بشعارات إن كانت تنتصر لإنسانية الإنسان فإنّها تحتفي بحيوانيتهِ بالمقابل. في حين: "النصر الوحيد الذي يستحق الاحتفال هو النصر على الحرب وعلى الرأسماليين الذين أشعلوها". 

اقرأ/ي أيضًا:

أوبير حداد.. ماذا لو عشنا في جسد غريب؟

برتقال مر.. الحبّ الآتي من ذاكرة بعيدة