31-ديسمبر-2019

السخرية آلية لرفض الواقع (Getty)

الضحك والثورة ليستا كلمتين يمكن وضعهما إلى جانب بعضهما البعض غالبًا. أن نضحك معناها أن نكسر القوالب المفروضة علينا سلفًا من قبل المجتمع والنظام. يقولون "الضحك بلا سبب من قلة الأدب" لأن كل ضحك لا يتماشى مع السائد يتم تنميطه وإطلاق الأحكام المسبقة في وجهه.

الضحك والثورة ليستا كلمتين يمكن وضعهما إلى جانب بعضهما البعض غالبًا. أن نضحك معناها أن نكسر القوالب المفروضة علينا سلفًا من قبل المجتمع والنظام

أن نضحك معناها أن نكسر القوالب المفروضة علينا سلفًا من قبل المجتمع والنظام. وكل ضحك ليس في مكانه وزمانه يجب إسكاته لأنه ضحك بلا سبب ولأنه من قلة الأدب! فالضحك ينتقل بالعدوى، وكذلك الثورة. الضحك يكسر الممنوعات، ويسخف المعايير الاجتماعية، ويهدد كل الأوضاع الثابتة ويخلخلها. لذلك يشكل الضحك حالة ثورية. وهكذا تصبح الضحكة سلاحًا ثوريًا في مواجهة الأنظمة المفروضة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا.

اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: النكتة السياسية عربيًا.. سرديات المقهورين

تخيل أنك في عزاء، الكل يلبس الأسود وتبدو عليهم علامات الحزن، وإذ يدخل أحدهم مرتديًا بدلة بيضاء كاملة، وتبدو عليه علامات الفرح، يمشي بين المعزين، يبتسم لهم ويطلق النكات ويضحك بصوت مرتفع، سيقال إنه تصرف "لا أخلاقي" ومناف لما هو متبع! الخلاصة أن هناك نظامًا للقيم يمنع على الفرد خرقه وتجاوزه، وأي خرق سيواجه بالعقوبات. الضحك ثوري لأنه يهدم نظام قيم محدد ويسعى لاستبداله بآخر.

يكتب مارك تواين: "الجنس البشري لديه سلاح واحد وهو الضحك". وللضحك هدف وهو التحرير من القوى المهيمنة على المجتمع والأفراد. وكتب جورج أورويل "كل نكتة تمثل ثورة صغيرة". فالنكات تعطل اللحظات الروتينية في حياتنا اليومية، والروتين يمثل النظام! حين تلقى النكتة نجد أنفسنا نضحك بعفوية وتزداد ضحكاتنا وتتصاعد وتتوتر وتنتشر وتتفاعل دون سابق إنذار. فالنكتة يمكنها هتك كرامة النظام وضربه تمهيدًا لهدمه.

الضحك والجوكر

يرسم المهرج في فيلم الجوكر ابتسامة عريضة على وجهه، ويتستر خلفها عالم من البؤس والحزن والكآبة. ضحكة مليئة بالبكاء، ضحكة مع غصة، فلا ندري إن كانت ضحكة فرحة أم ضحكة حزينة. إنها ضحكة من عمق الفاجعة.

يعاني آرثر، بطل فيلم الجوكر، من حالة مرضية تسمى مرض الضحك اللاإرادي. يحمل الجوكر بطاقة كتب عليها "سامحوني على ضحكي، أنا أعاني من حالة مرضية، وهي حالة طبية تسبب الضحك بشكل فجائي ومستمر، وخارج عن السيطرة، وغير متطابق مع ما يشعر به المرء. يبكي أو يضحك لا إراديًا في مواقف لا تعكس حالته النفسية الحقيقية".

يقلب آرثر الأعراف الاجتماعية حين يعلن أن قتل الشبان الثلاثة في القطار يعتبر نكتة مضحكة بالنسبة له. وحين يعزيه زميله بموت والدته، يرد بالقول "أنا أحتفل بموت والدتي"! أن تضحك من موت أحدهم يشكل تناقضًا كبيرًا. وبذلك يتقارب مع بطل رواية الغرباء لألبير كامو الذي تم اتهامه بجريمة قتل فقط لأنه لم يبد الحزن الشديد في مأتم والدته. حتى النكتة الكوميدية التي يطلقها المذيع موراي في برنامجه لها رمزيتها ودلالتها في فيلم الجوكر. يقول المذيع "تنتشر الجرذان الخارقة في مدينة غوثام، والحل لمكافحتها عبر القطط الخارقة".

السيستم يحدد سلوكنا، ويقرر ما هو الصواب والخطأ. السيستم يقرر ما هو المضحك من عدمه. متى يجب أن نضحك ومتى يجب أن نبكي، لكن "آرثر فليك" في طريقه للتحول إلى الجوكر يقرر معارضة القوانين الاجتماعية وقلب السيستم رأسًا على عقب. إذًا، ضحك آرثر سلاح في مواجهة الظلم. المهرج يضحك على العالم ومنه.

يقول الجوكر "الكوميديا موضوعية جدًا"، أي أنها صادقة، ولا تتلون وتتحايل، إنها بنت ساعتها وعفويتها. حتى حين يشعر الإنسان أنه معزول عن العالم الخارجي يضحك، حين يخاف يضحك فيهزم الخوف وينتصر على الطغاة. إنه ثورة ضد الجماعة. وكل ضحكات الجوكر تشكل كسرًا للقواعد الاجتماعية وهدمًا للمحرمات.

نظام القيم والأخلاق الذي شيده المجتمع سخيف، لأنه حين يتم نعت الأخرين بالمهرجين لمجرد أنهم يفكرون بطريقة مختلفة، فذلك نوع من العبثية. الجوكر يدافع بالكوميديا بالقول "لا، المهرج ليس سخيفًا". يضع الجوكر مبدأ "السبب والنتيجة" حيث إن هناك مسبب لكل سبب أدى إلى كل هذا الخراب في مدينة غوثام. ولأن الحياة كوميديا، فإنها ستحيل كل القيم والأخلاق إلى فوضى وخراب.

السخرية السياسية

نجد أنفسنا نستهزئ من أشخاص أو أحزاب أو أفكار ايديولوجية فرض علينا التعاطي معها بجدية. يتيح لنا الضحك التعبير عن رفضنا للمحرمات ومقاومة الظلم الذي تمارسه علينا الأقلية والأثرياء وأصحاب السلطة والنفوذ. النكتة تنزل هؤلاء عن عروشهم، وينتهك الضحك الأشياء التي يتم اعتبارها أمرًا مفروغًا منه، أو القواعد الملفوفة باحترام وهيبة. لا شيء بالنسبة للضحك ثابت! كل شيء قابل للانهيار، وهنا سبب الخوف من الضحك ومنعه.

لنتخيل ما الذي سيحدث لو استمر شعب ما في السخرية من الزعيم طوال أشهر، عبر المحاكاة الساخرة من خلال الصور الفوتوغرافية، الشعارات، الإعلانات، الفيديوهات، وفي إعادة صياغة خطابات الزعماء والسياسيين في قوالب ساخرة، وفي تأليف أغانٍ جديدة لبعض الشخصيات يتم ترديدها في الساحات، وفي السخرية من الشكل، الملبس، طريقة الكلام، نبرة الصوت، مضمون الخطاب نفسه، ومن المحتوى السياسي، وفي المقارنة بين الماضي والحاضر للزعماء، وفي كشف الحماقات والتعليق على الهفوات وغيرها الكثير.

تسمح لنا الفكاهة باختراق المواقف الأعمق وكشف الأكاذيب والأضاليل التي تقوم عليها الممارسة السياسية. ولا يمكن للنظام محاربة الضحك بالضحك لأن ذلك معناه المزيد من الضحك. حتى حين تحاك الكوميديا من قبل مناصري السلطة فإنها تبدو على قدر من الهشاشة وقابلة للطعن. تتغذى الثورة من هفوات أصحاب السلطة، وكلما مضغت الثورة الشعبية ما تفرزه السلطة من هفوات كلما زادت شهيتها وقابليتها على هضم المزيد من الهفوات وإفراز مستويات أعلى من السخرية والضحك.

اقرأ/ي أيضًا: التظاهرات اللبنانية.. احتجاج بالفكاهة

الضحك ثورة. وكلما زاد الضحك من الأصنام كلما كانت إمكانية هدم الأصنام ممكنة أكثر. وللضحك قوة كامنة وفعالة في الدول الديكتاتورية أكثر منها في الدول الديمقراطية. فكلما انتشر الظلم كان الضحك وسيلة فعالة في مواجهته. فالنكات السياسية هدفها التذكير الدائم بأن القادة المنتخبون لا يملكون مناصبهم ومكاتبهم وبأن طردهم وتغييرهم أمر بديهي وضروري. وكلما أصر الديكتاتور على تمسكه في السلطة كلما زادت حدة الضحك منه والسخرية عليه.

الضحك يكسر الممنوعات، ويسخف المعايير الاجتماعية، ويهدد كل الأوضاع الثابتة ويخلخلها. لذلك يشكل الضحك حالة ثورية

يقول أحدهم "لم أعد أحتمل، سوف أموت من الضحك" وكأنه مصاب بمرض الضحك المميت، وذلك بسبب ما قرأه وشاهده من سخرية وتهكم على الزعماء السياسيين في بعض البلدان العربية التي ثارت في مصر والجزائر وتونس ولبنان مؤخرًا. ولذلك خرجت أصوات من السلطة تدعو المنتفضين في لبنان إلى التظاهر دون الشتم والسخرية والضحك من القادة عبر السوشيال ميديا وفي الساحات. ودافع آخرون بشراسة وعنف عن منع المنتفضين من النيل من صورة زعيمهم، لكن كل المحاولات باءت بالفشل.