21-يوليو-2020

لوحة لـ ألكسندر توفانيلي/ إيطاليا

قد لا أملك حسّ الفكاهة في حديثي، وهذا لا يعني أنّي متصلب، لأنني أجيد فنّ التعامل في استدراج الفراشات إلى شرفتي، وأكثر من ذلك استمتع بحديث الظرفاء وأغبطهم. ولكني أدّعي بأنني أستطيع أن أحدثكم عن رحلتي اليوميّة.. سأحاول!

لديّ طريقٌ أسلكه صعودًا وهبوطًا، فمكان عملي، والذي أسميه "مكتبي" لأنني أحب الامتلاك، يقع على رأس تلة في حي عتيق وسط مدينة بنيت على تلالٍ سبع. وكلّ يوم عندما تكون الشمس في كبد السماء أصعد إليه متصببًا عرقًا وموسيقى، وقبل انتصاف الليل أهبط نزولًا إلى بيتي ذي الجدران المهترئة، إلا أنني حوّلته إلى ما يشبه المعرض الفني يدهش الزوّار. لطالما استغربت منهم عدم اكتراثهم لطول مكوثي في المطبخ أثناء صنع القهوة، فأجدهم مستغرقين في فك طلاسم القصاصات المعلقة على الجدران، بينما استمتع أنا بمنظر غليان البن.

يقال إن الشيطان يكمن في التفاصيل، وأنا أجيد صنع التفاصيل وأهواها، أختار بعناية زهور صالة الاستقبال، وأحرص على اقتناء عائلةٍ من القداحات الملونة، وأجناسٍ مختلفة من الأقلام.

ولشدة ولعي بالتفاصيل رحْت أنشئ علاقةً مع الأزقة والحواري، التي أسلكها في مسْراي اليومي، ولو كنت رئيس البلدية لما تكلّفت بتزيين الأرصفة ومنصفات الطرقات، هي هكذا جميلةٌ بنبضها وسكونها، تحفظ وجوه المارّة، وتسمح لجميع العابرين بالمرور، ولا تلقي بالًا للون أو العرق أو الجنس ولا لنوع الأحذية وألوانها، إلا أن لها روحًا يلمسها من حاول التقرّب إليها.

الشارع الرئيسي في المدينة، التي أسكنها كغريبٍ لا يعرف لغة أهلها، اسمه "وطن"، وهو عبارة عن أوتوستراد عريض، شاهدٌ على تاريخ المدينة وتقلباتها واحتفالاتها الرسميّة والشعبيّة والاستعراضات العسكريّة والمراسم الحكوميّة في المناسبات الوطنيّة، وهو أيضًا شاهدٌ على رحلتي اليوميّة، التي لا تشبه رحلة دانتي في "الكوميديا الإلهيّة"، ولا ترقى لرحلة الملحميّ الخالد جلجامش.

لطالما تغزّلت بهذا الشارع أمام الأصدقاء وعبّرت لهم مرارًا عن أبّهته ومكانته في نفسي، يكتسي حلةً من باقات الزهور الملونة والمطرزة كسجادٍ منقوشٍ باليد، وافر الظلال لكثرة الأشجار. مع الأيّام نشأتْ علاقةٌ من نوعٍ خاص مع "وطن"، وألفته منذ يوميّ الأوّل في هذه المدينة وصرت أشعر بأنه يقرأ إحساسي، فأراه سعيدًا ضاحكًا عندما أقبل، وهو متنفسي عندما يعتريني الحنين.

ما لمسته أن للطرقات مشاعر، وأنها كائناتٌ اجتماعية أشعر بحزنها، ففي أيام العطل ألحظ كسل "وطن" وخموله، لا يستيقظ باكرًا، وفي باقي أيام الأسبوع أراه كنادلٍ نشيطٍ يعمل في مقهى مزدحم يحاول تلبية طلبات كل الروّاد، فصخب المكان ينسيه التعب.

لم أسمعْ يومًا أن شارعًا كتب قصيدة، ولكن بالتأكيد شهد ولادة قصائدٍ وترنح الولهى، وخطى العاشقين نحو اللقاء وخبأهم في المنعطفات، والكثير من صدف الحب من أول نظرة. 

بعد المشي بضعة أميالٍ مع "وطن " عليّ أن انعطف نحو التلة، ارتفاعها ليس شاهقًا، ولكن في منتصفها هناك احتمالٌ كبير بأنّي سأصادف يوسف صاحب البقال وهو يعتني بصناديق الفواكه والخضار التي يفترشها أمام المحل، وما أن يراني حتى تعلو ابتسامةٌ لطيفةٌ على محياه، فهو لا يعرف العربية وأنا لم أتعلم لغة البلد المضيف، كسلٌ مني وعدم رغبةٍ، كل ما يعرفه يوسف من العربية هو كلمة "حبيبي" والأرقام (واحت وعشرين وسلاسة وسلاسين...)، لدرجة أنه كتب اسمي في هاتفه "حبيبي".

يوسف وإخوته الستة يديرون متجرهم بجدٍّ ونشاط ويعملون أربع وعشرين ساعة هم وزوجاتهم، هم مثالٌ لأهل الكار يجيدون صنعتهم، ودودون وظرفاء. أضطر عندما أصادفهم أن أوقف تشغيل الموسيقى وأزيل السماعات من على أذني لأبادلهم الابتسام ونداء "سلام حبيبي".

وعندما أتغيب أحيانًا عن الدوام، يفتقدني، وبالكاد أفهم عليه، فكلانا يجتهد في استحضار القليل من الكلمات، التي يحفظها أحدنا من لغة الآخر، لنجري حوارًا قصيرًا، مرة أخبرني أنه من أصول عربية، وأن أحد أجداده قدم من سوريا.

تحية يوسف، شبه اليوميّة، ليست سلامًا عابرًا، هي بمثابة استراحة المحارب، الذي يتأهب للصعود. ألتقط أنفاسي، وأتذكر نصيحة أحد الأصدقاء، في اتباع استراتيجية قهر المرتفعات، صديقي هذا أسميته بـ"قاهر الطلعات"، دومًا كان يقول لي لا تسرع الخطى وأنت تصعد، امش الهوينى، سترى الشاهق ينقلب منحدرًا!

في الإياب تكون الحياة أقل صخبًا، وعلى الرغم من أن النزول أقل مشقةً من الصعود، إلا أنني أثاقل الخطى، أمرّ بيوسف، وعلى الأغلب يكون منهمكًا في تلبية طلبات الزبائن، وأرى عمال النظافة يفرغون صناديق القمامة، ويسبقهم متعهدو الخردة لانتقاء ما يلزمهم من الحاويات الخضراء المتخمة بما ألقاه الناس.

وأمرّ بـ"وطن"، وعندما أصله أبتسم، وأظنه أيضًا يبتسمْ، وبات لديّ اعتقاد بأنه يقرأ أفكاري، لا نحتاج إلى لغةٍ ويكفينا شعورنا الداخلي.

في رحلة الصعود والهبوط أتذكر حكايةً قصّها عليّ صديقٌ عن رحلة الصواعد والنوازل الأسطوريّة لأهل مدينةٍ غابرة على ضفاف نهرٍ عظيمْ، كيف كان رجالها ينتظرون مواسم التجارة، ليركبوا النهر صعودًا محملين بالبضاعة، وقبل موسم الفيضان ينزلون وفي جعبتهم هدايا لزوجاتهم، اللاتي أسدلن شعورهنّ في ضفاف النهر كطقسٍ تمائمي، ولم أعرفْ هل كن يدعونّ الله عودة الأزواج أمْ أن تكون الهدية نادرة؟! أعرف إحداهن كانت تتمنى أن تغرق السفينة لتتخلص من العبودية، وأخرى كانت تهتم بما ستحظى به هذا الموسم من أقراطٍ وحلي، وثالثةٌ محبّة كانت تدعو سلامة وليفها، ورابعةٌ ذكية كانت ترغب بالأمرين معًا. ولكنني لا أعرف من منهن كانت محقة وحقيقية.

أتذكر أيضًا، حديث أحدهم كيف كان في طفولته المبكرة ينتظر حافلات الحجاج العائدة، وينظر إلى الأمهات كيف يقبّلن أولادهن، وبعد 6 سنوات من الانتظار عرف أن أمّه لم تذهب إلى الحج بل إلى السماء.

وأنا لا أريد لأمّي أن تذهب إلى الحج، وهي تدعو ليّ أن أرزق في تجارتي، ولكنّها لا تدري أن بضاعتي دواة حبرٍ والكثير من الأحلام وكلماتٌ مرصعة يبخسها العوام.

"وطن" يتذكر أمّي، التي كانت ترافقني في رحلة الصعود والهبوط، عندما تأتيني زائرةً في الصيف، وقتها، كنت أراه يزداد اتساعًا ويغدو أكثر بهجة، ترحيبًا بأمي. وأذكر أنّي أخبرت أمي عن أهمية الشارع وجماله، وعلّمتها كيف تقهر "الطلعة"، وقصصت عليها قصة يوسفٍ وأخوته.

ليوسف إخوةٌ ولي أيضًا إخوة، رموني صغيرًا في الغربة، أسعى بين التلة و"وطن" أشواطًا، ولديّ الكثير من الصحبة، يجيئوني عشاءً يتسامرون، منهم الحكيم والصلف، والمزهو بنفسه والعظيم حقًا، والصبي ومن يدعي أنّه يوحى إليه. وأملك من الوقت الوفير قبل النوم ما يكفي لرحلةٍ بانوراميةٍ سريالية أخرج فيها من الواقع إلى غرائبية، أجدني فيها أعتلي جملًا مرةً وأخرى صحنًا فضائي.

في سفر تكْويني اليومي أصعد نحو الشمس لأضع عيني بعينها إلى أن تتحول إلى قرصٍ داكن لتترك ليّ حرية توزيع الألوان على الأشياء كما يليق بها، وأقفل الرحلة أجرّ القمر ورائي ليأخذ مكانه، مصباحًا منيرًا، يلقي بضيائه إلى نافذتي، ولا يتركني أنام لفرط وداعته.

كأنّي فلكٌ، تعامل مع التحذير السماوي، لخوض رحلة النجاة من الطوفان، يركب الأمواج صعودًا وهبوطًا، مثل مسيحٍ معلقٍ على مشانق الانتظار، ينتظر هطول المطر لعلّه يصحو ويعلن قيامته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إشارة إلى شيء

الحرب تعمل بجد