الرياضة والسيارة، ونيويورك تايمز، هي عناصر تجربتي الصوتية في عالم الصحافة والمحتوى المسموع منذ أشهر عديدة. فالمحتوى المسموع هو مقياس الطريق، وهو أيضًا مقياس التمرين الضروري قبل أن يقصم الجلوس الطويل أمام الشاشات أظهرنا، أما نيويورك تايمز فهي، ولننحّ اليوم كثيرًا من التحفّظات، هي الوجهة التي تعطيك من الأصوات أفضلها، ومن أشكال المحتوى أحسنها جودة وقيمة.
أسمع أمورًا عديدة أخرى حين تتاح لي فرصة التصفح والبحث، أو حين ينصحني صديق ببرنامج ما، بالعربية أو الإنجليزية، لكني أجد في نيويورك تايمز خيارًا يوميًا متنوعًا، يسدّ حاجة متسعة للاستماع ونهمًا مستمرًا إليه ورغبة في البحث عن أشكال جديدة منه، لم يتح لي إلا مؤخرًا إدراك نطاقها على اتساعه، في العالم الناطق بالإنجليزية.
ما يزال الرهان معلقًا على حتى يتوفر لدى العربي مثل هذه السعة في المحتوى الصحفي المسموع الجادّ وذي الجودة العالية بلغته، وأن يتوفر له من الأصوات ما هو كفيل بمفاجأته كل مرّة وإفادته وسحبه إلى هذه التجربة، حيث تختلط لغة الصحافة الجيدة بلغة الصوت الجيّد، لتنتج في الحالة المثالية شيئًا زائدًا عليهما، ما زلنا عربيًا بافتقار شديد إليه.
تحمست كثيرًا حين أعلنت نيويورك تايمز أخيرًا إطلاقها لعموم المشتركين تطبيقًا جديدًا جامعًا لمحتواها الصحفي عالي الجودة، وذلك بعد حوالي أكثر من سنة ونصف على طرح نسخة تجريبية منه لعدد محدود من الصحفيين والكتّاب والمختصّين.
هذا التطبيق، ليس تطبيق بودكاست، كما تصوّر كثيرون بعد تسريب أخبار عنه قبل 18 شهرًا تقريبًا، وهو التصوّر الذي أثّر سلبًا على ترقّب المنتج وخفض سقف التوقعات منه. فمتاجر التطبيقات وصلت حد التخمة القصوى من تطبيقات البودكاست (مجددًا، بالإنجليزية)، ثم إن التايمز بغنىً عنه، خاصة أن أداء برامجها على المنصات المختلفة يحقق عشرات ملايين الاستماعات يوميًا، وهي أرقام في تصاعد مستمر، في صحيفة يقترب عدد المشتركين فيها من 10 ملايين مشترك ومشتركة حول العالم، ويتوقع أن يصل إلى 15 مليونًا في العام 2027، بحسب خطط الشركة التي تطمح إلى أن تكون هي نقطة اللقاء المشتركة لكل "صاحبٍ فضول يعرف الإنجليزية ويسعى إلى فهم العالم والتفاعل معه".
طبيعي أن تعرف نيويورك تايمز جمهورها من المشتركين الذين ترغب باستقطابهم، والتي تقدرهم بزهاء 130 مليونًا على الأقل حول العالم، وهي طبقة الجمهور المستهدف الذي تحاول إغراء المزيد منهم للاشتراك في باقة منتجاتها المتنوعة، عبر بوابة الصوت هذه المرّة، والمحتوى المسموع في تبويبات الأخبار والتحقيقات والتقارير المطوّلة وحتى الرياضة والطبخ والعلاقات الحميمية والألعاب. وليس من الصعب تخيّل روتين حياة يوميّ هنا لهؤلاء المهتمين، تحضر فيه أهمية استهلاك الصوت لهم، وهو ما فعلته ستيفاني برايس، المديرة التنفيذية لدائرة المحتوى الصوتي في نيويورك تايمز، وفكّرت به كثيرًا، وفق ما تنقل "الفانيتي فير" في تقرير لها.
كيف يبدأ هذا الشخص "صاحب الفضول المعرفي" والذي تبحث عنه التايمز يومه وكيف ينطلق فيه؟ تبدأ لحظات اليوم الأولى في تصوّر برايس من لائحة التنبيهات على الهاتف وعرضها، ثم بعد دقائق في الحمّام، يضع هذا الإنسان السماعات على أذنيه، ويبدأ بإعداد القهوة، ولقمة سريعة قبل أن يمارس بعض الرياضة، أو يخرج لتمشية كلبه. سيتابع هذا الشخص يومه إما في السيارة، وهو بحاجة عندها إلى ملء هذا الوقت بما يرخي إليه أذنيه، أو في وسائل النقل العام، وهو هنا يحتاج إلى ما يحتاج إليه صاحبنا الأول، ثم إنه يحتاج أيضًا إلى ما يضع بينه وبين من حوله من الركّاب حاجزًا متخيلًا ليحجبهم عن مساحته الشخصية، وهذا الحاجز بحسب ما نبّهني إليه أحد الزملاء مرّة، ليس إلا سمّاعة الأذن، التي تمنح الحق في الانغماس التامّ في الهاتف والانفصال عن الآخرين. ومع التراجع الذي تسجّله منصات التواصل الاجتماعي بين هذه الفئة من المستخدمين، المتزامن مؤخرًا مع التراجع في قدرة اعتماد الناشرين عليها للوصول إلى الجمهور، فكّرت نيويورك تايمز بأنّ هذه هي فرصتها السانحة، لكي تستحوذ على المزيد من أوقات المستخدمين في هذه الفسح آناء النهار وفي أطراف من الليل، وذلك عبر تطبيق أطلقت عليه اسم "نيويورك تايمز أوديو"، بعد سنة ونصف في مطبخ التجربة، كما ذكرنا آنفا.
هذه الصورة النمطية التي رسمتها برايس، ليست محض تخيّل اعتباطي بطبيعة الحال، بل هي نابعة من فحص الأرقام التي لدى المؤسسة بحسب تقريرها السنوي الأخير، والتي تدلّ على نموّ مطّرد في حجم المحتوى المسموع وحجم جمهوره، إضافة إلى الأرقام التي تنشرها المؤسسات البحثية المختصّة، مثل معهد رويترز، والتي تؤكّد عامًا تلو العام، بأن الآفاق مفتوحة لمزيد من النموّ في محتوى الصحافة المسموعة، إلى جانب البودكاست الصحفي.
وبحسب أحدث تقرير لمعهد رويترز، فإن 72% من المؤسسات الإعلامية قالت إنها ستركّز على الاستثمار بشكل أكبر على البودكاست وغيرها من أشكال المحتوى المسموع، وهو اتجاه فاق ما سجّلته الاتجاهات الناشئة الأخرى رقميًا، كالرسائل البريدية والمحتوى الفيديوي الطويل أو القصير أو الصحافة المرئية.
عزرا كلاين، الصحفي الأمريكي الشهير، كان أحد من جربوا التطبيق قبل إطلاقه، بعد أن اتخذ موقفًا سلبيًا من الفكرة، وهو أحد أهم الأصوات في نيويورك تايمز حاليًا، إذ شكك، كما أوضحنا أعلاه، في الحاجة إلى تطبيق جديد للبودكاست في الولايات المتحدة، كما اعتبر أن الصحيفة تحقق نجاحًا هائلًا في برامج البودكاست التي لديها كما هي على المنصات المفتوحة، وأنه يحسن بها زيادة الاستثمار بها.
لكن وفي تقديمه لحلقته الأخيرة من برنامجه على بودكاست من إنتاج نيويورك تايمز، اعترف كلاين بأنه قد أدرك خطأه، بعد أن أدرك أنّه يتعامل مع تطبيق لم يأت بمثله أحد من قبل، وهو ليس بتطبيق للبودكاست وحسب، بل هو في المقام الأول تطبيق مختصّ بعرض التقارير الصحافية الجيّدة بشكلها المسموع، وبأصوات من كتبوها. فهذا التطبيق يوفّر بوابة لمختلف ما أنتجته وتنتجه الصحيفة، صوتيًا، من ملخصات وتقارير إخبارية شارحة، وقصص الأخبار، والعناوين الرئيسية الراهنة، إلى جانب مقالات الرأي والبروفايلات وما تشتمل عليه أقسام الصحيفة المختلفة في التقنية والصحة والثقافة ومراجعات الكتب وسواها. كما يشتمل التطبيق على محتويات مجلة نيويورك تايمز، وفوق ذلك كلّه، مكتبتها الضخمة من برامج البودكاست منذ أن دخلت الصحيفة هذا الكار في العام 2016. هذا التطبيق، بحسب تعبير موقع آكسيوس الأمريكي، هو "إمبراطورية" صوتيّة، وبحسب الأرقام الأولى لتنزيلات التطبيق عالميًا، فيمكن القول إنه إمبراطورية صوتيّة لن تغفل عنها أذن المستمعين حول العالم، في ظل زيادات تاريخية على جمهور الصحيفة ونموّ المشتركين فيها واستمرار ولائهم لها.
رئيسية صوتيّة جديدة
سيضمّ التطبيق برنامجًا يوميًا جديدًا، باسم "العناوين الرئيسية"، وهو امتداد لبرنامج البودكاست "ذا ديلي"، أحد أشهر برامج الصحيفة، وليس بديلًا عنه. هذا يعني أن البودكاست سيبقى متاحًا حتى لغير المشتركين في نيويورك تايمز، ولكن على منصّات البودكاست العديدة، مثل آبل بودكاست، أما البرنامج الجديد فسيكون حصريًا على التطبيق للمشتركين. هذا يعني أن حجم الاستماع على التطبيق قد يكون أقلّ مما هو عليه في منصات البودكاست (يستمع لبرنامج "ذا ديلي" أكثر من 3 ملايين شخص يوميًا)، لكنّ الفكرة تتمثل في توسيع القاعدة، وتعزيز المزايا الحصريّة التي يتمتع بها المشتركون الذين يأتون إلى التطبيق ومحتواه، ولا يأتي إليهم، ومنحهم تجربة يصعب على أي منافس مجاراتها.
في هذا التطبيق تستمع إلى نطاق واسع من التقارير بأصوات من كتبوها، فهم الأقدر على الحديث عنها وقراءتها قراءة شارحة للمستمعين، وعبر منتج نهائي لا ببالغ في توظيف عناصر التصميم الصوتي والمؤثرات والموسيقى الخلفية وغيرها. وفي مثل هذه التقارير كلها بداية ذات رسالة موحّدة، تبدأ من صوت المراسل والتعريف بنفسه، قبل الشروع بالقراءة، وذلك بهدف التشبيك العاطفي بين اسم الكاتب وتقاريره لدى المستمع، ومنحه القدرة لو أراد على العودة إلى تقارير هذا الكاتب أو تلك الكاتبة بعد أن ارتبط بصوته أو صوتها وطوّر معه علاقة ما في سياق ما، وهو ذات السبب الذي جعل القائمين على التطبيق ينأون شكل مطلق وجازم عن الأصوات المركّبة بتقنية الذكاء الاصطناعي، والتي أثبتت إخفاقها في تشكيل مثل هذه الرابطة مع المستمعين.
وهذه الفكرة الأخيرة قادمة من عالم الراديو والبودكاست، حيث الحميمية وقصص الارتباط بالبرامج تعلقًا بأصوات مقدميها وأسلوبهم، والاندماج مع إيقاعهم، ووقوع الكلام منهم موقعًا مباشرًا، بمساعدة التطوّر الهائل في تقنيات التسجيل، وتقنيات الاستماع أيضًا، أي عبر السماعات الجيدة التي تضمن وصول صوت نقي منزوع عن الضوضاء المحيطة، إلى أذنيِ المستمع. وهذا يحصل أكثر في عالم البودكاست، بوصفها تجربة سمعيّة تشاركيّة. وهكذا فإن القرار بالاعتماد على أصوات الكتاب والمراسلين المنتمين إلى قبيلة النيويورك تايمز، يضمن أن يكون هذا التطبيق وسيطًا "ساحبًا" (Pull Medium)، بحسب تعبير ريتشارد بيري، في مقال أكاديمي له حول البودكاست وعلاقته مع الراديو عام 2016، بمعنى أنه يدفع المستخدمين للعودة إليه، بحثًا عن تكرار التجربة والاستثمار العاطفي فيها، وباستقلالية شبه تامّة على مستوى الخيارات، مترافقة مع قدر عالٍ من التحكّم والتفاعل. إن هذه القصص الصحفية المسجّلة، كما البودكاست، تشكّل تجربة شخصية، وخاصّة، وحميمية، تعزل المستمع عن محيطه وتحصّنه من اختراق مجاله الحيوي اليومي، وذلك بفضل ما توفّره من إمكان الانغماس الكامل فيها لفترة معتبرة من الوقت.
أما جديد التطبيق على المستوى التحريري، والذي يشرف عليه 14 محررًا ومحرّرة، فهو التسجيلات القصيرة (Shorts) في الثقافة والموسيقى والسينما والصحة والطبخ والسفر، وهي وجبات صوتية سريعة من خمس أو ست دقائق في هذه المواضيع، إضافة إلى قسم "العناوين الرئيسية" (Headlines)، وهو مقاطع من دقيقتين تشرح أخبارًا يومية محلية ودولية. فحين تفتح التطبيق، ستواجهك القصّة المسموعة الرئيسية لليوم، تليها مختارات من تقارير المراسلين بتقديمهم وبأصواتهم. وبما أنّ اليوم أحد، فقد ظهر قسمٌ لمختارات سمعية لنهاية الأسبوع (أسبوعهم)، وأسفل منها مختارات من مجلة نيويورك تايمز (من بينها اليوم مقال مطوّل عن إنقاذ المراهقين من خطر الانتحار). وهناك طبعًا ما يربو عن 40 برنامجًا مكرسًا آخر من برامج البودكاست التي تنتجها الصحيفة أو استحوذت عليها مؤخرًا، ومن بينها برنامج "سيريال" الشهير، وبرنامج "ذيس أميركان لايف". وكل هذا ينتظم في تطبيق واحد، يشرف على تفاصيله وعلى عملياته التقنية فريق متخصص من 40 موظفًا وموظفة، لتبثت نيويورك تايمز مجددًا قدرتها على زعزعة المشهد في عالم الصحافة الغربية، الناطقة بالإنجليزية، عبر فرضها لقواعد المنافسة، والتي ترى هي اليوم، أنها تدور حول الصوت والسماع والولع به.
بعد تجربة التطبيق، أرى أنّه سيكون بديلًا مقبولًا عن منصّة آبل للبودكاست للباحثين عن المحتوى الصحفي اليومي باللغة الإنجليزية، خاصّة وأنّه يضمّ كذلك عددًا من برامج البودكاست من نيويورك تايمز، مثل برنامج "عزرا كلاين" و"هارد فورك" و" ذا ديلي" وغيرها. وبهذا حسمت نيويورك تايمز أمرها، لتكسب رهانها على الصوت، كما كسبته من قبل في رهانها على الكلمة المتقنة والصحافة المكتوبة الجيدة. أما عربيًا فما يزال الرهان معلقًا إلى أن يتوفر لدى العربي مثل هذه السعة في المحتوى الصحفي المسموع الجادّ ذي الجودة العالية وبلغته، وأن يتوفر له من الأصوات ما هو كفيل بمفاجأته كل مرّة وإفادته وسحبه إلى هذه التجربة، حيث تختلط لغة الصحافة الجيدة بلغة الصوت الجيّد، لتنتج في الحالة المثالية شيئًا زائدًا عليهما، ما زلنا عربيًا بافتقار شديد إليه.