18-يوليو-2021

من معرض للفنان آل هيلد

في مطلع تسعينيات القرن الماضي عرض الفنان التشكيلي آل هيلد بعضًا من أعماله في نيويورك. صاحب الغاليري، الذي كان مقررًا أن يقام المعرض فيه، اكتشف أن ثلاث لوحات من لوحاته ضخمة إلى الحد الذي لا يمكن معه أن تتسع لها مصاعد المبنى الذي يقع الغاليري فيه. فقرر أن يستأجر مساحة خالية في الشارع 42 من المدينة، كانت فرعًا لأحد المصارف قبل أن يتم إقفال الفرع وعرضها للإيجار، وعرض لوحات الفنان الثلاث خلف زجاج الواجهات، حيث كانت تقوم مكاتب المصرف. العابرون في الشارع كانوا يشاهدون هذه اللوحات، كما لو أنها جزء من ديكور المساحة، أو، لربما، كانوا يحسبون أنها مجرد إعلانات لحدث تجاري، أو فني سيعلن عنه لاحقًا. أو ربما اعتبروها سلعًا معدة للعرض تمهيدًا لبيعها.

المعروض للمارة والعابرين في المدن هو إعلان عما تحتويه من كنوز في داخلها. هذا المعروض لا قيمة له فعليًا

ليس كل سكان المدن، بمن فيهم سكان نيويورك، خبراء فنون تشكيلية. ولو كانوا كذلك، أو يملكون معرفة متوسطة الحال بالفنون التشكيلية الحديثة، فقليلون منهم سيعرفون من هو آل هيلد ويتعرفون على أعماله من نظرة عابرة من خلف الزجاج. اللوحات التي عرضت في ذلك المكان شكلت يومها حدثًا ثقافيًا في المدينة، وثمة الكثير مما كتب عنها. إنما، ورغم أن ما كتب قد كتب. فإن أهل المدينة اليوم ربما لا يذكرون آل هيلد، ولا يعرفون عنه شيئًا. لكنهم قطعا يعرفون أن الفن التشكيلي عموما هو فن معتنى به، ويباع بأسعار خيالية في سوق لها زبائنها وأباطرتها ومسوقيها. هؤلاء بالتحديد هم من يجدر بنا أن ننعم التفكير في ما يفعلونه ويخططون له.

اقرأ/ي أيضًا: الذين ترسلهم إلينا البراري

لنفترض أن المعروض في تلك المساحة الفارغة من المدينة كان لوحات لدافنتشي أو بيكاسو أو شاغال، وأن كثرًا من أهل المدينة تعرفوا على أصحابها. فهل كان من بينهم من يمكنه أن يصدق أنها لوحات أصلية؟ أم كانوا اعتبروها نسخًا رخيصة، لا هدف من عرضها غير الترويج لشيء أو حدث ما؟

هذه الحادثة، وحوادث غيرها تمر من دون أن تلفت انتباهنا لحظة حدوثها، هي جزء أساسي مما يحدد معالم المدن اليوم. لو عرضنا قمحًا أو ذرة خلف الزجاج، فلن يفكر أي من المارة في احتمال الحصول على كمية من هذه المادة. على العكس، لن يدقق أي كان في لوحة الموناليزا في اللوفر من دون أن تمر في ذهنه فكرة الطريقة الأنسب لسرقة هذه اللوحة. ومع أن الفكرة تعبر سريعًا، فدون الحصول على هذه اللوحة أهوال لا تحصى، إلا أن الجميع يدركون أنهم يشاهدون في هذه اللحظة ثروة هائلة يمكن حملها بيد واحدة، وقد تغير حياة الكثيرين لو حصلوا عليها.

المعروض للمارة والعابرين في المدن هو إعلان عما تحتويه من كنوز في داخلها. هذا المعروض لا قيمة له فعليًا. لكنه يؤدي وظيفتين على الأقل: أولاهما تذكير أهل المدن والسائحين أن هذه المدينة تملك ثروات لا حد لها ولا حصر، وثانيهما تهدف إلى تذكير هؤلاء العابرين أنهم رغم كثرتهم وجموعهم الغفيرة، فإن أحدًا لا يحسب حسابهم، بل إن ما يعرض هنا وهناك في هذه الشوارع بوصفه إعلانات لما تحتويه المباني وما يكنز خلف الجدران، لا يعرض لتمكين هؤلاء العابرين من مشاهدته ومعاينته واستخدامه، بل إن هدف العرض هو تذكير هؤلاء جميعًا، ومعظمهم من سكان المدينة والعاملين فيها، بأنهم بلا قيمة ولا يقام لهم اعتبار. والتأكيد لهم، من ناحية ثانية، بأن ثمة بين جدران هذه المباني بشر يملكون السلطة والمال والقدرة على التحكم بما يرونه ويشاهدونه.

في كتاب شارون زوكين الذي يحمل عنوان "ثقافات المدن" تذهب إلى تأكيد أن الفنون، والأعمال التي تمت للفنون بصلة، هي ما يشكّل الأحياز العامة في المدن الحديثة اليوم. وترى من جهة أخرى أن متاجر بيع التجزئة هي أحياز عامة بطبيعة الحال، وهي متاجر يعتنى بتزيين واجهاتها ودواخلها عناية فائقة، كما لو أنها متاحف صغيرة. وأحد الشروط التي ينبغي أن تحوزها هذه المتاجر لتتحول إلى أحياز عامة، هي صلتها بصانعي السلطة ومحتكري القوة. وهي تستمد سلطتها هذه، أو إيحاءاتها بامتلاك السلطة من التشابه الذي تحرص عليه بين ما يظهر من إعلانات على جدران المباني وجوانب الطرقات السريعة، وما تحتويه هذه المتاجر من سلع تتصل اتصالا مباشرا بهذه الإعلانات.

إذا كانت الأحياز العامة المتبقية للناس في المدن الحديثة هي أحياز تعرض سلعًا وابتكارات شركات كبرى تصنع الملابس أو العطور أو السيارات، وما شابه هذا واتصل به من باب الاستهلاك، فهل يمكن القول إن المرء في هذه المدن يستطيع أن يبدي رأيه أو يعترض ويكون لاعتراضه جدوى وفائدة، أو يمكن أن يكون مسموعًا أو مقروءًا؟

تذهب شارون زوكين إلى تأكيد أن الفنون، والأعمال التي تمت للفنون بصلة، هي ما يشكّل الأحياز العامة في المدن الحديثة اليوم

اقرأ/ي أيضًا: طابور الثقافة الطويل

والسؤال الأهم من السابق ذكره قد يكون التالي: كيف يمكننا أن ننتخب ما نشتريه؟ مثلما يجدر بالمواطنين في الدول القومية انتخاب من يحكمهم؟ وهل ثمة قوانين أو قواعد تمنع احتكار السلطات كلها بيد أباطرة الموضة والصناعة والتكنولوجيا؟ أم أن القاعدة الوحيدة المتبعة هي الفصل القاطع بين الناس المحكومين والسلع التي تولدها البيروقراطيات التجارية والصناعية بوصفها أمل الناس وغايتهم الأخيرة؟

مع ذلك يحدث في هذه الدول، الديمقراطية منها على وجه الخصوص، أن ننتخب الرؤساء والنواب، وأن ننحاز في السياسة إلى هذا السياسي ونخاصم ذاك. مع أننا ندرك في قرارتنا، أن السلطة الحقيقية تقع في مكان آخر، لا قبل لنا بمجاراتها، ولا قدرة لنا على التأثير في اتجاهاتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لعلّ الجواب عند ماسلو

دولة المواطن المتعثرة