15-مايو-2023
to calque

تقنية الورقة الناسخة هي تقنية "عقلية" الـ"كوبيي-كولي"

يميز دولوز-غواتاري بين الخريطة Carte والورقة الناسخة Calque. "الخريطة لا تعيد إنتاج لاشعور مغلق على ذاته، بل إنها تبنيه بناء. إنها تساهم في ربط الحقول فيما بينها، الخريطة مفتوحة، يمكن وصلها في جميع أبعادها، وهي قابلة للتفكيك، والقلب، والتعديل الدائم. يمكن للخريطة أن تُمزّق، وأن تُقلب رأسًا على عقب، كما يمكنها أن تتكيف مع التوليفات مهما اختلفت طبيعتها، وأن تُشغّل من قبل فرد، وفريق، وتشكيلة اجتماعية. بإمكاننا أن نرسم الخريطة على جدار، وأن نتخيلها كعمل فني، أو نبنيها كفعل سياسي أو كتأمل. لربما كانت إحدى أهم خصائص الخريطة تَمثُل في كونها متعددة المداخل على الدوام".

خلافًا للخريطة فإن الورقة الناسخة، التي تتوفّر على مداخل عديدة، تعود دائمًا إلى "الشيء نفسه". فهي "تنحو المنحى المضاد للخريطة، وتستجيب لمتطلبات عالم التمثّل. وهي تقتصر على علاقة محاكاة للعالم، ولا تنفكّ تحيل إلى مهارة مزعومة".

خلافًا للخريطة فإن الورقة الناسخة، التي تتوفّر على مداخل عديدة، تعود دائمًا إلى "الشيء نفسه". فهي "تنحو المنحى المضاد للخريطة، وتستجيب لمتطلبات عالم التمثّل

ترتبط الورقة الناسخة بالفلسفة المثالية التي تُرغِم المظاهر على أن تدخل في علاقة محاكاة مع المُثل المفارقة، في حين أن الخريطة هي إنجاز يدعو من يطّلع عليه، لا أن يحاكيه ويقلّده، وإنما أن يعمل، وأن ينسج علاقة معيّنة معه. الخريطة مسألة إنجاز. وهي تطرح مفهومات، وتحثّ على تجريب مختلف المسارات بين النقاط التي تعيّنها. إنّها عمل مفتوح، متعدّد المداخل، متعدّد الدلالات، يترك للقارئ حرية التدخّل في العمل. إنها نوع من البريكولاج.

تقنية الورقة الناسخة هي تقنية "عقلية" الـ"كوبيي-كولي" (الكوبي-باست). فبينما تكرّر الخريطة الجزئيات، وحتى إن هي رمت إلى استنساخ الكلّ، فإنّما عن طريق الأجزاء، بينما تسير الخريطة نحو الكلّ بالتدرّج، وتستهدف الكلّ بربط الأجزاء فيما بينها، فإنّ الـ"كوبيي-كولي" يتّجه توّا إلى الكلّ. إنه يقتطع ما يشاء غير آبه لا بالبتر ولا بالحذف، وأحيانًا حتى بالمعنى. كأنّه لا يبالي بما يستنسخه بقدر ما ينشغل بعملية الاستنساخ ذاتها.

رسم الخريطة "محاكاة" ذكية تتحايل على موضوعها كي تتوفّق في نقله، وهي تبدأ متعثرة فتبذل جهدًا متواصلًا كي تقترب من أن تكون "طبق الأصل". إنها تستغرق مدة وتتمّ في الزمان. أما الـ"كوبي-باست" فهو لحظي، لا يعرف التدرّج ولا الانتقال، لا المحاولة ولا الخطأ. إنّه يكون "طبق الأصل"، أو لا يكون.

الـ"كوبي-باست" ينتشل النصّ الذي يستهدفه ليقحمه في السّياق الذي يريد. ينقل نصًّا ما بعد حداثي ليلقي به في ثقافة غارقة في التقليد. يقتطع حيًّا من مدينة نيويورك ليقيمه في صحراء عربية. يجتزئ مؤسسة سياسية حديثة ليُرسيَها في تشكيلة قبلية. يستنسخ ما بعد الحداثة ليلصقها بمجتمع تقليدي.

لا يتفاعل الـ"كوبي-باست" مع ما يحاكيه، أو قل إن تفاعله لا يأتي إلا بعد حين. إنّه لا "يتفاعل" إلا بعد "النقل والإلصاق": عن طريقه نقتني أحدث أشياء التقنية ونعمل فيما بعد على تكييفها مع عاداتنا وأعرافنا، ونترجم آخر ما استجد في عالم الأفكار ونعمل فيما بعد على هضمها، ونبني أفخم قاعات المسارح ونعمل فيما بعد على ملء فراغاتها. إنه ما يجعلنا لا نتمثل الحداثة إلا بعد أن ندرك الـ"ما بعد". هو إذن حرق للمراحل، وقضاء على الزمن، وخلطٌ للأوراق.