21-يونيو-2016

نصر حامد أبو زيد

الحوار تحدٍ محفوف بالمخاطر والخواطر، إذ إنّ الجلوس أمام مفكر، أو كاتب، أو فنان مجردًا من كل شيء سوى سلاح واحد هو السؤال مجازفة لا تشعر بها إلا بعد أن تتورَّط فيها، والمتورِّط هنا هو الكاتب والصحافي السعودي علي سعيد، الذي قدّم نفسه -للمخاطر والمجازفة- راضيًا لا ينتظر إلا القليل من "صحبة العشَّاق".

ظلَّ علي سعيد يجهز كتابه "الحقيبة الجلدية" لمدة عشر سنوات "بصحبة مفكرين وأدباء وفنانين"

ما لي أتحدث، وعلي يروي تجربته: "حدث ذلك وأنا لا أزال طالبًا في صفوف كلية الإعلام، ولكن قبل ذلك، كنت في كل مرة أنهي كتابًا فكريًا أو أدبيًا أثيرًا، أجدني أرمي صنارة الخيال بعيدًا وأتوهم أني أجري حديثًا مع المؤلف. أسأله، أساجله، أناقشه وأجادله في كتابه حد الإنهاك ثم أصمت وحيدًا يائسًا لأن الحقيقة هي أن المؤلف في مكان آخر".

اقرأ/ أيضًا: 8 أعمال روائية من أدب السجون العربي

بعد قليل، تحقق لعلي ما أراد، أصبحت الدنيا كلها بين جناحيه، يعبر الكلمات والأسطر والأغلفة إلى عوالم المفكرين، محمَّلًا بمدفعية ثقيلة من الأسئلة وعلامات التعجب والحيرة.. صاغها في كتابه "الحقيبة الجلدية" (الصادر عن "أثر" للنشر والتوزيع).

ظلَّ علي يجهز كتابه لمدة عشر سنوات "بصحبة مفكرين وأدباء وفنانين"، وهم: باسم حمد وأدونيس وألبيرتو مانغويل ونصر حامد أبو زيد وقاسم حداد وأحلام مستغانمي ومحمد أركون وعلي بدر وسهيل زكار وأحمد سعداوي وغسان مسعود وأميمة الخليل، وخيري شلبي. هذه مغامرة بدأت ولن تمرّ من هنا دون أن تهيل بالتراب على أعدائها، وتمسح وجوه آخرين بمساحيق تجميل. 

واجه "الحقيبة الجلدية" عقوبة المنع والمصادرة في مطار الكويت لأسباب لا أحد يعلمها. لا أحد يجيب عن سؤال "لماذا؟". الرد المريح للجميع "الكويت تمنع أغلب المؤلفات". والعزاء إن المصادرة هي التي تصنع الكتب وليس نشرها. سألت علي سعيد، فكان رده ضاحكًا: "لا أعرف، ربما بسبب حوارات نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون". هل نقترب قليلًا؟.. ما الذي قاله "ثنائي الشيطان" في "الحقيبة الجلدية"؟

هزيمة "نصر"

يقول أبو زيد، المفكر المصري الراحل، الذي مُنع -في يوم من الأيام- من دخول الكويت بعد حصوله على التأشيرة: "الجوائز العربية معروفٌ أن معظمها جوائز سلطانية، وفي حدود معلوماتي، رشّحت لبعض الجوائز، وطبعًا لاعتبارات لا علاقة لها بالقيمة الفكرية والأكاديمية لم أعطَ الجائزة، وأتفهم وأقدِّر هذا الأمر".

نصر حامد أبو زيد: الجوائز العربية معروفٌ أن معظمها جوائز سلطانية

قدّم "علي" سؤالًا ساخنًا بين يديْ أبو زيد عن المؤسسة العربية للتحديث الفكري، التي أطلقها وكانت على وشك الإغلاق، فكان متأسفًا وهو يهز رأسه: "تعاني من مشكلات مالية وإدارية. كان هناك أمل في بعض رجال الأعمال العرب الذين يؤمنون بالديمقراطية والحداثة أن يساهموا ويفتح هذا الأمر بابًا للتبرع، ولم يحدث. هذه المؤسسة لو لم يكن على رأسها نصر أبو زيد ومحمد أركون ربما كان حالها أفضل".

اقرأ/ أيضًا: البحث عن أفريقيا

ويلمح إلى نجيب ساويرس: "عرفت أن رجل أعمال مصري قرر إنشاء جائزة للقصة القصيرة والرواية، مع أن للقصة والرواية جوائز عديدة، لأن رجل المال العربي يريد أن يبدو حداثيًا بينما الفكر الديني في مرحلة عصر الإصلاح".

جرح أركون

يجد "أركون" نعيمًا في شرح أطروحته "الأنسنة"، التي يشقى بها البعض، أو هكذا صوَّر لهم خيالهم. يروي مؤلف "الحقيبة الجلدية" تفاصيل ندوة حضرها له بالبحرين: "اعترض أركون على اتهام الباحث والمترجم السوري منذر عياش له بالأدلجة، ونزع عنه الصفة العلمية.. فجلست زوجته في الصف الأول متوترة تشير إليه كي يتوقف عن المحاضرة خوفًا على صحته، فهو مريض ولا يحتمل ارتفاع ضغط الدم، الذي قد يسبب له مضاعفات خطيرة، وهو في أواخر السبعينات من عمره".

 

ينتقل "أركون" بنعومة من النظريات الأكاديمية الجافة إلى "أنسنة الأشياء". يعلق على وجهة نظره في الحجاب: "أنا كنت في اللجنة (البرلمان) ولا يمكنني أن أدافع عن الحجاب لأي سبب من الأسباب". لماذا؟.. "لأن المبدأ الأول هو أن المرأة ذات إنسانية حرة ويجب أن تمنح لها هذه الحرية بصفة تامة. النساء المسلمات، اللاتي عشن في البيئة الإسلامية لا يمكنهن أن يدركن الأبعاد السياسية والإيديولوجية للبس الحجاب بسبب البيئة التي نشأن فيها".

ما العمل الآن؟.. "أن يأتي ذلك من باب التربية، يجب أن تعطي الحرية حتى تسمع، حتى تتربى، حتى تتمتع. ولذلك لا يمكنني أن أصدم أي امرأة إذا أرادت أن تلبس الحجاب ولكن أنا كمؤلف وأستاذ أريد أن أفتح لها الأبواب حتى تصبح حرة في ذاتها مع نفسها". ماذا لو قالت "أنا سعيدة في الحجاب"؟.. "أقول نعم وأفهم أنك سعيدة الآن، ولكن (خلينا نتكلمو ونزيدو في الكلام) واسمعي لما سنقوله في كلامنا ولننتظر ماذا يحدث".

موت "باسم"

هي قصة نحَّات رفض أن يصنع "صنمًا" لصدام حسين، ومات فجأة ليكتشف الجميع أنه "رجل النهايات".

محمد أركون: المرأة ذات إنسانية حرة ويجب أن تمنح لها هذه الحرية بصفة تامة

يروي علي سعيد في "الحقيبة الجلدية" قصة باسم حمد: "هز النحات العراقي رأسه وقال (ربما تحدثنا بما يكفي). وضعت المسجل في حقيبتي التي بدا فيها بعض الثقوب من أثر التمزق واهتراء الاستعمال اليومي. قمت من مكاني وغادرت المقهى بعد أن ودّعته بعناق الأصدقاء الحميم. بعد ثلاثة أشهر، اتصلت على محمول باسم حمد، كان مغلقًا. ذكرت اسمه في مكالمة مع الروائي علي بدر فتعجب قائلًا: (باسم توفي في حادث سير بالعراق قبل شهرين)".

اقرأ/ أيضًا: في صالون العقاد

باسم حمد كان غارقًا في النهايات، يحب ذكراها، ومن بين ما يرويه قصة فصله من المعهد لأنه رفض أن ينحت تمثالا لصدام حسين حين كان الدكتاتور العراقي كثير الدعوات للفنانين لإقامة مسابقات لصنع تماثيل له أو لنصب يمثل انتصاراته وأمجاده "مثل أي ملك من ملوك الممالك السحيقة".

القصة ليست مهمة، لكن ما قاله "باسم" عن مشاهد نهاياته يستحق الذكر: "كانت علاقتي بالنحت علاقة صوفية تمامًا. كثيرًا ما كان يأتي أصدقائي ويجدوني مغمى عليّ من شدة الإعياء، والتمرين. يمر يومان أو ثلاثة وأنا أنسى الأكل والشرب وهي تلك الفترة التي بدأت تتهدم فيها علاقاتي الاجتماعية مع الأسرة نتيجة الفوضى التي غزت حياتي بشكل كامل".

ثم ينظر "باسم" إلى عينيْ حبيبته، وينعي نفسه: "في النهاية أنت مخلوق ولديك الحاجات الإنسانية التي يجب أن تصغي إليها، ومهما بلغ نضج تجربتك الفنية وانسجامك مع النحت، ففي النهاية يستحيل أن يكون هناك عزاء لأنه ثمة شيء اسمه مخلوق آخر، كائن يناصفك الحياة أو النهايات أو حتى يواسيك على نهاياتها".

اقرأ/ أيضًا:

تاريخ كتالونيا في 300 صفحة

تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء