30-مارس-2022
كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

لم تذكرنا الحرب على أوكرانيا بويلات الحربين العالميتين وحسب، بل أعادت الى أذهاننا كل الحروب والنكبات والنكسات العربية عامة، والدولية خاصة.. وراح البعض يستحضر شخصيات بعينها، وآخرون يستعيدون قصصًا وحكايات، في تداعيات تزداد وتتكثف مع استمرار هذه الحرب.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شبّه روسيا بألمانيا النازية، واستعاد الهولوكوست مذكرًا بأن النازيين تحدثوا عن حل نهائي للمسألة اليهودية، كما تتحدث موسكو الآن عن حل نهائي للأوكرانيين. بل لم يتوان عن استخدام إيمانه اليهودي في سعيه لتغيير الموقف الحيادي الاسرائيلي من ويلات الحرب على بلاده، ناسيًا كل الويلات التي لحقت بالشعب الفلسطيني منذ الاستيطان الصهيوني في فلسطين عام 1948.

استعادات متبادلة

ولم تتوقف الاستعادات على الرئيس الأوكراني، فثمة من يستعيده هو أيضًا.. إذ ثمة تهافت عالمي على شراء حقوق مسلسلات من بطولته، كمسلسل "خادم الشعب" الذي استشرف وصول الممثل الكوميدي زيلينسكي الى السلطة، كما وصل أستاذ التاريخ بطل المسلسل، وكيف تداخلت احداثه مع الواقع في واحد من أكبر الأحداث غرابة على مستوى البلاد.. فقد تحول "خادم الشعب" من مجرد مسلسل جماهيري كوميدي، يناقش مشكلات اقتصادية وسياسية يعاني منها الشعب الأوكراني، إلى تيار سياسي حقيقي أسس حزبًا مستقلًا بالاسم نفسه في مارس عام 2018.

فاز الممثل الكوميدي زيلينسكي بانتخابات الرئاسة في أوكرانيا بنسبة 70% وليتحوَّل الرئيس الخيالي في المسلسل إلى الرئيس الفعلي لدولة أوكرانيا

ومع استمرار عرض المسلسل في العام 2019، تم ترشيح زيلينسكي رسميًا لانتخابات الرئاسة الأوكرانية عن الحزب الذي ساهم في تأسيسه. وكانت النتيجة فوز الممثل الكوميدي بانتخابات الرئاسة بنسبة 70% وليتحوَّل الرئيس الخيالي في المسلسل إلى الرئيس الفعلي لدولة أوكرانيا.

وفي المقابل استعادت وسائل إعلام غربية رواية "موسكو 2042" للكاتب الروسي فلاديمير فوينوفيتش، التي نشرت عام 1986، وسلطت الضوء على أوجه التشابه بين زعيم يحكم روسيا في 2042، وبين الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. ففي الرواية، يتنبأ الكاتب فوينوفيتش، برئيس دولة ارتقى في صفوف "الكي جي بي" واستخدم الحرب لتعزيز سلطته، ورفع زملاءه الأمنيين السابقين إلى مناصب ذات نفوذ، وادعى أنه يستمد السلطة من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.. وحكم روسيا لعقود.

كما ويتميّز بطل الرواية بأنه يقف بعيدًا عن الجميع، ويمتطي صهوة حصان وهو عاري القميص، وهي أفعال تتشابه بشكل ملفت مع تصرفات الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين الذي أقدم على تغيير دستوري يسمح له بشغل المنصب حتى عام 2036، وهو العام الذي سيبلغ فيه 84 عامًا.. وليس العمر المتقدم الشيء الوحيد الذي يشترك فيه بطل الرواية مع بوتين. فذاك ملأ حكومته بأصدقائه من أجهزة المخابرات، وأنشأوا معا الحزب الشيوعي لأمن الدولة، وهو عبارة عن مزيج متشابك من المشرعين والشرطة السرية الذين يترأسون "مجتمع شيوعي لا طبقي وغير نظامي".

وتوقع المؤلف فوينوفيتش أن الكنيسة ستتمتع بعودة قوية في روسيا المستقبلية، بعد القمع في الحقبة الشيوعية السابقة، وتتدخل في مسائل مثل الزواج وغيره.. وحاليًا قد لا يعتبر بوتين نفسه رئيسًا للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، لكنه استخدم الدين لإحكام قبضته على السلطة..

الروح الروسية

يرى كثيرون أنه لا يمكن التأكد من مدى صدق تدين بوتين، لكنه من الواضح أن الحضارة الروسية تعتمد على الأرثوذكسية كنواة ثقافية مركزية، بالإضافة إلى  مفهوم "العالم الروسي" الذي تروج له الكنيسة في إشارة إلى مهمة إعادة توحيد "الأراضي الروسية" التي ستنتمي إليها أوكرانيا مع ضرورة الاشارة الى بطريركية موسكو (الهيئة المؤسسية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية) التي ظلت دائمًا غامضة في موقفها تجاه أوكرانيا، فالكنيسة تروج لمفهوم الأراضي الكنسية، أي حقيقة أن الأرض الروحية للكنيسة أوسع من حدود الاتحاد الروسي، وتشمل بيلاروسيا وأجزاء من أوكرانيا وكازاخستان.

ومن وجهة نظر الكنيسة للعالم تشكل جميع الدول السلافية الشرقية أمة تاريخية واحدة، وكييف هي مهدها الروحي، ولكن نظرا لأن البطريركية كانت تضم عددًا كبيرًا من رعاياها في أوكرانيا فقد كان عليها أيضًا الاعتراف بسيادة أوكرانيا كدولة، وحاولت تجنب الاستقلال الكنسي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية على الرغم من أن بطريركية القسطنطينية اعترفت بذلك في النهاية في عام 2018.

وثمة من يرى أنَّه من أجل فهم بوتين جيدًا، يجب الانتقال إلى كتابات دوستويفسكي، التي ميّزت هذه الروح الروسية تجانسيًا، إذ تُعدّ روسيا، بحسب دوستويفسكي، هي الأكثر تطورًا من الناحية الروحية لجميع الدول السلافية. وكونها البلد الأمّ لعائلة حميمية من الدول، فإنَّها ستستوعب هذه البلدان والشعوب القريبة إلى الحظيرة، ويجب على قادتها العمل نحو هذه المهمة.

لكن ما يُحاول بوتين فعلَه هو إساءة واضحة لتأويل وتفسير أعمال دوستويفسكي، لأن هذا الأديب العبقري كان من أكثر الكُتّاب إيمانًا بالحرية؛ كالحرية الفردية، وحرية التعبير. ويعد دوستويفسكي واحدًا من أشهر الكُتاب والمؤلفين حول العالم، والذين تحتوي رواياتهم فهمًا عميقًا للنفس البشرية وتقدم تحليلًا ثاقبًا للحالة السياسية والاجتماعية والروحية والجمالية لروسيا في القرن التاسع عشر.

لغة الجسد

واضافة الى استعادة الأحداث والحكايات والشخصيات، ثمة استعادة لخصوصيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتعليمه حيل لغة الجسد، وكيفية التعامل مع القادة الغربيين.

وبحسب صحيفة "ذا صن" البريطانية، فقد التقى الأسترالي آلان بيس، خبير لغة الجسد، بوتين لأول مرة في عام 1991 في مدينة سانت بطرسبرغ، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وكان أقصر مما توقع، إذ بلغ طوله 5 أقدام و7 بوصات، ولكن ما ينقصه في الطول كان معوضًا في عقله. فقد كان ذكيًا وسريع التعلم.

وأشار آلان إلى أن بوتين يستخدم الآن نفس أساليب وحيل لغة الجيد التي علمها له منذ سنوات، وأبرزها: وضعية القبة التي تعني لمس أنامل اليدين بعضهما ببعض لتكون كلتا اليدين في وضعية تشبه القبة، على أن يستند الشخص بجسمه إلى الوراء ويبتسم دون أن يظهر أسنانه. ومشية الرامي والتي تتمثل في المشي بهدوء شديد وتحريك ذراع واحدة وتجميد الأخرى، وهذه المشية تعطي شعورا بالثقة وعدم الخوف. بالإضافة الى البرود والهدوء، الذي يخيف الخصم ويجعل الشخص يبدو أكثر قوة.

سلوك بوتين قد تغير بشكل كبير، ولم يعد القائد الواثق المسؤول الذي كان عليه قديمًا، بل أصبح أكثر عصبية وعزلة كما لو كان يتوقع هجومًا عليه من أي شخص حتى المقربين منه

وأكد الخبير آلان أن سلوك بوتين قد تغير بشكل كبير، ولم يعد القائد الواثق المسؤول الذي كان عليه قديمًا، بل أصبح أكثر عصبية وعزلة كما لو كان يتوقع هجومًا عليه من أي شخص حتى المقربين منه.

ولكن يبدو أن الرئيس قد تجاوز معلمه، وأضاف إلى للغة جسده لغة للأشياء أيضًا، وتجلى ذلك بوضوح اثناء استقباله نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في الكرملين، ولم تتوقف لغة الأشياء على الطاولة الكبيرة التي تفصل بينهما، فقد سبقه بمسافات بعد المؤتمر الصحافي، وتركه يمشي خلفه، في حين تعامل بالبروتوكول العالمي المعهود في استقباله للرئيس الأرجنتيني. أو زعيم كوريا الشمالية.

وإذا كانت هذه إشارات تمهيدية للحرب، فقد أكملها بوتين في إعلانه عنها، وقال من خلال الجلوس وحيدًا إنه مستعد لمواجهة العالم وحيدًا، وبكل هدوء أعصاب، ومكتبه الفارغ من أي شيء يعني إنه ليس بحاجة لأي اتصالات أو أي تراجع.. وجلوسه المرتاح على الكرسي أثناء إعلان الحرب لا يظهره كقائد عسكري، بل كمدير أعمال، وبذلك يقول أيضًا إنه ليس معتديًا أو محتلًا.

أما عن لغة عيني بوتين، فيرى خبراء لغة الجسد أن التحديق بصمت إلى الكاميرات يعد تصريح قوى، وهي من أشهر تعبيرات بوتين الجسدية لبث الخوف.. ومع أن معظم تعبيرات بوتين خلال خطاب إعلان الحرب توحي بهدوء الأعصاب إلا أن وجنتيه وحركة شفاهه فضحت شعوره بالغضب.

ويقول معلم بوتين آلان بيس: "أردت مساعدة بوتين في أن يكون قائدًا ناجحًا لا أن يدمر العالم".