14-يوليو-2022
فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

صحوتُ على خبر موت عمي خالد.

نيكول تهزني وتقول باندفاعٍ وتردّدٍ معًا: "Your uncle Khaled died".

نهضت مذعورًا مثل من امتدت يدُ الموت وأيقظته، لا يدُ زوجته.

مضيتُ على الفور إلى أبي. وضعه في أسوأ ما يكون. بدا في مزيج من الضعف والحزن والمرض، فبكيتُ على الحي الذي أمامي، وليس على الميّت البعيد.

جئت كي أواسيه، فراح هو يواسيني، دون أن يدري أنَّ البكاء الذي يحاول، شبه منهار، أن ينهاني عنه هو لأجله.

ما الذي يجعل الحزن والضعف مرتبطان؟ ولماذا يبدو الناس الحزانى مرضى كما يبدو المرضى حزانى؟

 

ما الذي يجعل الحزن والضعف مرتبطان؟ ولماذا يبدو الناس الحزانى مرضى كما يبدو المرضى حزانى؟

ما من تفسيرٍ أوضح من أنها أشياء تخرج من ينبوعٍ واحد، ولهذا تتشابه في الحال والمآل.

أما عمي خالد، ففجّر الحزن فيّ وكأنني لم أفعل شيئًا في حياتي أكثر من أن أكون حزينًا. بشكلٍ انفجاري صَعَدَ الحزن فيّ وأنساني كل لحظات الفرح والمتعة والاسترخاء التي عشتها، وجعلني أبدو تعيسًا كأنني وُلدتُ على هذا الحال أصلًا.

المشكلة الكبرى أنني يجب أن أُخفي ذلك. علّمتني لحظات الضعف الجماعية التي عشتها مع أهلي العاطفيين أن أتماسك مدعيًا، وذلك بألا أظهر أمامهم ضعفي، بل أريهم أن الأمور قابلة للتحمّل، وتلك تقنية مفيدة جدًا في وضعنا الذي يغيب فيه الدعم، فلا الجيران يبالون، ولا أقارب تدفعهم النخوة أو الفضول يأتون كي يخففوا من مصائب يعرفون أنها وقعت. لكن هذه المرة، وأمام أبي الشاحب، فقدت حيلتي الوحيدة، ولهذا شعرت أنني ضعيف وبائس منذ اللحظة التي وُلِدت فيها.

في غربتنا هذه، في الديار الألمانية، لم تتوقّف عواصفُ الموتِ عن الهبوب علينا حتى بتنا على يقين أن الأقدار في حالة انتقام منا، فسوى الموت الذي في الأخبار وفي أحاديث التلفون مع الباقين ماتت أمّ أبي، وأمّ أمّي، ومات عمّ آخر في وضع مأساويّ، مقعدًا على كرسي مدولبٍ بعد بتر قدمه من تفاقم السكري، وغريبًا في بلاد الإغريق إذ انتهى إلى مقبرة مسلمين مجهولة لا أحد يعلم أين تقع.

الأكثر ضنى وعذابًا هو موت أخي تحت التعذيب في سجون النظام الدكتاتوريّ السوري، ولم نعرف بذلك إلا حين وصلت أمّي مع قوافل اللاجئين، إذ كتمت الخبر في صدرها سنةً كاملةً.

حَزِنّا على هؤلاء حزنَ أحياء على فراق أحبتهم، باستثناء أخي، فتلك قصة دموية لا يمكن التسليم بها، إذ لم يمت بسبب الكبر أو المرض، لكنّ موت العم خالد جعلنا نرى المنفى مجددًا، فبعد نجاته من شظايا قذيفة في الحرب ملأت جسمه بالثقوب، قام بعد أيام ليكمل حياته، ومن يومها لم يتخيل أحدٌ منا أنه بعد تلك المعجزة سيموت قريبًا، فمن عادة من يُفلتون من براثن الموت أن يعيشوا عمرَ لبيد بن ربيعة، الذين يقال إنه عاش قرنًا ونصف القرن، سوى أن فيروس كورونا جعل المعجزة فعّالة في نطاق الحكايات فقط.

المعادلة الآن: مات المخيم فمات عمي، أو مات عمي فمات المخيم.

لديه ما يرشّحه ليكون خان الشيح نفسه، المكان البري المليء بالأشواك، بعد أن اختارته وكالة الغوث "الأونروا" لقربه من النهر الأعوج، كي يكون مخيمًا للاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، ولصدفة غريبة لم ينزل فيه سوى بدو من عشائر الجليل.

لديه ما يرشّحه ليكون المخيمَ، أو ليكون والمخيمَ صورةً واحدةً، لأنه جاءه طفلًا وكبرا معًا. لم يولد فيه ويكبر مثل الناس الذي يولدون في منازل أهلهم، ثم يكبرون فيها، لأنَّ ذكريات هؤلاء ليست كل ذكريات هذه المنازل، إذ لا بدّ من وضعها إلى جوار ما سبقها. هو من النوع الذي يرحل به الأهل إلى منزل انتهى بناؤه توًّا، ولأنه يكون واعيًا في ذلك الوقت يكبر لا في المكان، بل معه. فتكون ذكرياته هي ذكريات المكان الذي لم تلوّثه ذكريات سابقة، بل عليه أن يتلوّث بما سوف يصبح ذكرياتٍ.

جاء عمي مع أب ناجٍ من مجزرة. نجا الجدّ بسبب دهاء أمه. جاءت قوة من الهاغاناه إلى مضارب القبيلة وأخذت الرجال لأن فيهم من شارك في مقاومتهم، وفورًا التقطت تلك الأم إشارة الموت فألبست الجدّ ثوبها الاحتياطي وراحت تصيح "مجنون.. مجنون"، فتركوه وقتلوا كل من وجدوا من الرجال يومها وكانوا أربعة عشر رجلًا، فرحلت القبيلة مذعورةً باتجاه سوريا.

لا توجد للمدن أيام ميلاد، لأنها لا تولد بقرار أو ضمن خطة، إنما هي تأتي إلى الحياة وتظلّ تنمو، ولشدة ما تنمو يبدو كلّ يوم جديد يوم ميلاد

 

العم الذي غادر المكان الذي بالكاد بدأ يتعرف عليه، دون أن يعرف عنه أكثر من رعب وموت ورحيل، وصل إلى المخيم فوجد فيه ما يبحث عنه؛ ملعبًا. أما المخيم فوجد في الأطفال ما يريده المكان؛ أن يُحبَّ، إذ لم يكن لأحدٍ أن يحبَّه يومها.

نعرف أنه لا توجد للمدن أيام ميلاد، لأنها لا تولد بقرار أو ضمن خطة، إنما هي تأتي إلى الحياة وتظلّ تنمو، ولشدة ما تنمو يبدو كلّ يوم جديد يوم ميلاد. أما المخيم فعلى العكس منها يأتي إلى الحياة دفعة واحدةً مثلما تأتي جميع الكائنات الحية.

إذًا، المخيم في حسابات الأمكنة طفل، ولأنه كذلك سمح للأطفال أن يلعبوا دون خوف الموت أو الرحيل، على الرغم من حديث الأهل الدائم عن العودة. إذًا، كبرا معًا، هو صار فتى ثم شابًا إلى أن شاخ، والمخيم صار من فضاء للخيام إلى ملتقى للبيوت الطينية التي صارت منازل من إسمنت، ثم جاء الوقت الذي هجمت عليها طائرات الدكتاتور لتعيدها رمالًا.

مات المخيم فمات عمي، أو العكس!

انفجر الحزن هنا. بينما بدا الحزن هناك منطقيًا. لأنَّ من هم هنا لا يعرفون أكثر من خبرٍ عن موتٍ يتمنونه خبرًا كاذبًا كل لحظة، مع أنَّ الموت لا يكذب. الكذب عادةٌ من عادات الحياة. ولأنَّ من هناك لديهم حقائق يجب التعامل معها: ميّتٌ، جنازةٌ، قبرٌ. وغياب هذه الأشياء عمن هنا يجعل من ألمهم غير قابل للفهم. يريدون من الدنيا، وهم الذين لا يملكون القدرة على الرجوع لأنهم لاجئون، أن تكون كريمةً إلى درجة أن تجلب لهم قبورًا.

المشكلة أن القبور وُجدت لتكون بعيدة. دائمًا ما تكون المقبرة خارج نطاق التجمّع الحضري، وكأنَّ خطة العمارة التي تجعلهما موجودتان بالتوازي على شكل كتلتين مستقلتين تريد أن ترسم بهما محاكاةً للحياة والموت. إلى جانب المقبرة البعيدة، والموت الذي يأخذ أحبابنا إلى أمكنة نائية أصلًا، لدينا ميّت بعيد ليس بسبب قانون الموت فقط، بل لأسباب تتعلق بالدكتاتورية والحرب واللجوء، ما يجعل من تدفيع الضحايا للثمن أمرًا لا ينتهي أبدًا.

بين الهذيان الذي يطلقه أبي في ندبه سمعتُ عبارات يعاتب فيها الزمن على موت أخيه قبل اللقاء. ومع أنه يضع اللوم على الزمن فإنّه يقصد القدر، وهذه عادة عربية قديمة تعطي للقدر اسمَ الزَّمن، ولشدة ما يبدو كلّي القدرات ستظنّ أنه الله نفسه متجليًا لدى الناس على هيئة طاغية، يجعلون منه مسؤولًا عن إزهاق الأرواح، مع أنّ الزمن كقاتلٍ مجازيّ يصلح لمهمته هذه في حالات كبار السن الذي يُودي بهم من خلال توقفه عندهم. لكن ما دخل الزمن بالموتى الذين يحصد أرواحهم الهشّة منجلُ الوباء؟ وما علاقته بالقتلى الذين تمزّق أجسادهم قنابل الحروب ونيرانها؟

تخيّلت الزمن جالسًا معنا في غرفة معيشة والدي، يسمع ما أسمعه ويصرخ به ناهرًا: "اخرسْ أيها الأحمق. هذه مشيئتي وليس عليك سوى أن تخضع لها". أو أن يكون أكثر خبثًا ويقول، بطريقة أقرب إلى الهمس حتى يؤلم أكثر: "أنت من يجب أن يُلام. لماذا تركته؟ لو كنتَ إلى جواره لما مات".

لماذا عليه أن يظهر على هذه القسوة؟ ألا يمكن أن يكون طيب القلب مثل أبي، ومثل كلّ هؤلاء الضحايا العاجزين؟ ربما! بل لعله يفوقهم حنانًا وشفافيةً لشدة ما قاسى من مرارات. نعم هو كذلك، وإلا لماذا يقول هذا الكلام في الغرفة: "لستُ أنا. لن أقول إنني بريءٌ دون دليل. لم أكن هناك أصلًا. أنا مثلكم جميعًا هربت من سوريا، لكن بعكسكم أنتم البشر؛ الزمن حين يهرب يهرب كله، ولا يُبقي وراءه أصحابًا وأقاربَ. لذا لست أنا من فعلها".

حلَّ صمتٌ على الغرفة. توقف بكاء أبي العالي. توقف بكائي المكبوت. وفجأة صرنا نسمع القرآن متلوًا بصوت عبد الباسط عبد الصمد في موبايلي الموضوع على الطاولة الصغيرة.

دائمًا ما تكون المقبرة خارج نطاق التجمّع الحضري، وكأنَّ خطة العمارة التي تجعلهما موجودتان بالتوازي على شكل كتلتين مستقلتين تريد أن ترسم بهما محاكاةً للحياة والموت

لا يأخذ الموتُ هيبته دون تلاوةٍ قرآنيةٍ من عبد الباسط.

لألف سببٍ تتعلق بجمال وحنان وطيبة وصلابة ومائية وزجاجية ذلك الصّوت. راحت الكلمات تخرج من باطن الأرض، ثم تتسّرب من مساماتها على شكل بخورٍ نتنفَّسهُ فنخشع. أو هبطت علينا من الأعلى مثل مطر، مثل بَرْدٍ، أو مثل حرّ فنرتعش، ونمتصها عبر جلودنا، وحين يشعر كلٌّ منا أن كل نقطة في جسمه باتت أذنًا يبدأ بهزّ رأسه في نشوةٍ.

في مخيمنا البعيد، خان الشيح، ومنذ وعينا على الوجود لنجد أنفسنا بناتًا وأولادًا، عرفنا بيئتنا الأولى وهي تربط صوتَه بالموت. ولأنه لا يوجد مأتم دون مسجلة تبث تلاواته، خلنا الشيخ المصريّ الذي نراه أحيانًا على شاشة التلفزيون موظفًا عند الموت. نعم فكّرنا بذلك، وربما فكر فيه الجيل الأكبر كما الجيل الأصغر، وكلنا خسرنا تلك الفكرة حين أدركنا أنه فنان دينيّ وحسب.

فكرتنا جاءت من أنَّ لكل شيء موظفًا. لا توجد أشياء دون أحد يشرف عليها. هناك رجل يظهر كل فترة صارخًا أمام بيوتنا "كهرباء.. كهرباء". يفحص العدّادات ثم يمضي. هذا الرجل موظف عند الكهرباء بالنسبة لنا. لا نعرف أن هناك مؤسسة، بل هناك امرأة متسلطة اسمها الكهرباء ترسل هذا الرجل اللحوح إلينا.

المعلمون موظفون عند وكالة الغوث "الأونروا". اسمها يوحي لنا أنها شقراء. موظف حزب البعث الذي يخشاه الجميع يقولون إنه يعمل عند الدولة. ولأنه مخيف فمديرته مخيفة. أحد الأولاد قال إن الدولة تشبه عيدة، تلك الحيزبون التي لم تتركنا نلعب بسلام بالقرب من منزلها، مع أنَّ الأمر من وجهة نظرنا أنها هي من تسكن بالقرب من ملعبنا، ساحة الحارة القديمة، وتستحق أن تُنفى إلى منزل في زقاق مهمل لا يُغري أحدًا، حتى الكلاب الضالة.

في تلك الفترة، قلتُ لابن عمي إن الملائكة موظفون عند الله.

منتصف النهار تمامًا، وصل أخي مؤيد مع عائلته الصغيرة قادمين من غيسنْ. بدا واضحًا لي، مثلما بدوتُ له، أنه يتصنّع الصلابة لكي يشد من عزم أبيه، فيما يحتاج إلى من يشد عزمه.

يا لها من لعبة قاتلة، هذه التي تضعنا في مواقف تتطلب التماسك والقوة، لأجل مساعدة أهلنا الضعفاء، بينما نتناثر في الحقيقة من الداخل أشلاء ومِزَقًا، من شدّة الهشاشة.

جنى ابنةُ الثالثةُ لم تفهم لماذا يبكي جدها. قال أبوها إنَّ له أخًا مات في سوريا، الأمر الذي فاقم من حيرتها، فسوى أنها بدت غير مقتنعة أنَّ لجدها إخوة، لأنَّ الجدود لم يكونوا أطفالًا أبدًا، فالإخوة والأخوات شأن طفوليّ خالص؛ لم تستطعْ أن تهضم أنَّ ثمة "هناك" أخرى يمكن أن ينتمي لها الإنسان، و"هناك" الوحيدة هي هامبورغ بالنسبة لها حين تكون في غيسنْ فقط.

لم تفهم لماذا يبكي، تظن أنه، على الأرجح، مثلها يهدأ بلعبة أو بقطعة حلوى. لم تبتعدي عن الحقيقة كثيرًا يا ابنة أخي، لكننا لو أعطينا جدك بدلًا من الألعاب والحلوى قبرًا لهدأ.

يشعر المنفيون أن دفن أجسادهم في الأمكنة الأولى يعني الحصول على الثقة اللازمة، وعلى الحماية، لخوض الرحلة الكبرى

 

فلندع معضلات البنت الصّغيرة، ولنذهب إلى كبرى معضلات اللاجئين: الرغبة في الموت في المكان الأول.

تغدو أمنية الإنسان الأخيرة عادة أن يُدفن في مكانه الأول. الأمنية تظل ذاتها حتى لو طالها بعض التحديد، كأن يطلب صاحبها أن يُدفن إلى جوار عزيز من أهله، لكنّ المنفي قسرًا يتمسك بهذه الأمنية مثل من يتمسك بالحياة، على الرغم من معرفته باستحالة تنفيذها، فالبلاد التي لا تقبلك حيًّا لن تقبلك ميتًا. لا يريد أن يموت في أرض غربية لا يُزار فيها قبره، ولا تقرأ عليه الفاتحة. لا يمكنني إدراك السّر وراء التمسك بالقبر وسلامته، مع أن هؤلاء الغرباء، من اللاجئين والمهاجرين، يجب أن يكونوا في ذلك الوقت في مكان يُجمعون على تسميته "جوار ربهم"، بحسب إسلامهم العميق. ما يقول إنَّ رغبتهم في البقاء هنا، في هذه الحياة، أقوى من مجاورة الله. يا للمفارقة!

الأكثر من ذلك أن دفن أجسادهم في الأمكنة الأولى يعني الحصول على الثقة اللازمة، وعلى الحماية، لخوض الرحلة الكبرى.

نأتي من بلاد مثقلة بالأساطير تقول إنها تحفظ الميت سليمًا لكي يعبر إلى الأبدية، في المعتقدات الوثنية. وتقول ما يشبهه في الأديان التوحيدية، ففي الإسلام سوف يُعاد إحياء الجسد حتى لو كان رميمًا، لكي يمضي صاحبه إلى الخلود في الجنة. سوى أن الجسد الغريب في المكان الغريب، خلال الحياة قبل غربة الموت، حقيقةٌ تُفقِد تلك الأساطير سحرها في المنافي.

الموت في داخل المنفي فعل مضارع، رغم أنه الفعل الوحيد الذي سرعان ما يصبح فعلًا ماضيًا بعد أن يحدث وينتهي.

المضارع يعني مصارعة الموت، أي الاحتضار، ذلك الفعل الذي يعني أن الشخص "يموت" أو يحتضر، لكنَّ معجم المنفى يجعل هذا الموت، أو الاحتضار، بطول الحياة التي يُحكم على الإنسان أن يعيشها، ولأجل هذا بالضبط يمكن النظر إلى كون الموت واقعًا والحياة خيالًا وحسب.

الموت هو ما نعيشه وليس الحياة. الموت هو ما كان، وسيكون، وما بينهما طبعًا.

يصبح الموت فعلًا ماضيًا عند أهل البقاء. عند الذين هناك. لأنّ الميت الذي يعرفونه صارت له جنازة، وأقيم له مأتم، وبات له قبر يُزار، لكنَّ أهل اللجوء حين يفكرون بالمكان الآخر، المكان الغائب، يواجهون مشكلة مع زمن الأفعال التي تقسّم العالم أمامهم بين هنا وهناك، الآن وسابقًا، ولأجل التغلب على هذه اللعنة النفسية يستحضرون المكان ويجعلون كل الأفعال الماضية مضارعةً. ها هي أمي: "في مثل هذه الساعة، نذهب إلى منزل المرحوم". لا تقول "كنا"، بل "نذهب" وحدها، وكأنها تذهب الآن، في اللحظة التي تقول عبارتها وهي تقصد الذهاب إلى منزل كبير العائلة، حيث يجتمع الجميع وقت القصف، من خشية أن يقع عليهم صاروخ ويقتلهم وحيدين بلا أنيس.

من أجل هذا يحمل المنفيون في صدورهم توابيت، ويقيمون جنازات ومناحات طوال الوقت.

مهلًا، أليس المنفى في أحد وجوهه موت؟ ألا نقول إنه "غربة" مثلما نقول ذلك عن الموت؟

إذًا هذه الغربة الصغرى تمرين جيد على الغربة الكبرى، أو مقدمة مهمة لها، لولا أن المنفيين أنفسهم يحولونها إلى غربة كبرى، حينما يملؤونها بميتات الآخرين، بغربات كبرى أخرى غير التي لهم، ولهذا يصعب بعد هذا تخيل كيف تكون الغربة الكبرى!

نأتي من بلاد مثقلة بالأساطير تقول إنها تحفظ الميت سليمًا لكي يعبر إلى الأبدية، في المعتقدات الوثنية. وتقول ما يشبهه في الأديان التوحيدية، ففي الإسلام سوف يُعاد إحياء الجسد حتى لو كان رميمًا، لكي يمضي صاحبه إلى الخلود في الجنة

ولا بدّ من ملاحظة مهمة هنا: عندما نرى المنفيين أكثر تقليدية في نمط الحياة، وأكثر ميلًا إلى التدين، فيجب أن نفهم أن ذلك قادم من كونهم يقاومون موتًا ساكنًا فيهم، وما من حيلة أو حلّ غير التمسك بالأعراف.

اللاجئون هنا، معي وحولي، إذا ما تسنت لهم العودة يومًا فسوف يقضون أكثر أوقاتهم في زيارة المقابر. فكما قلتُ سابقًا إنه من عجائب التصادف امتلاك المقابر كل مواصفات المنفى: البعد والنأي، الوحدة والوحشة، صمتُ المكانِ وخَرَسُ ساكنيه، الحزن.

إذا عدنا سوف ننقل المنفى الحيّ إلى حيز المنفى الميت، أي المنفى الذي ذهبنا إليه دون توديع أهلٍ وأحباب، ثم ذهبوا إلى منفى ميت دون أن يودعونا. ربما لأنهم ماتوا حزنًا علينا، أو لأنهم كانوا يحتاجون إلينا ولم يجدونا فانتهوا.

إذا عدنا سوف نسكن المقابر كي ندفع كفّارة الغياب. ولهذا غيابٌ يدفع ثمن غياب، ومنفى بعيدٌ يُستبدل بمنفى قريب.