29-فبراير-2016

الجرجاوي.. الصعيدي الذي فتح اليابان(ويكيبيديا)

عندما كنّا صغارًا وحتى عهد قريب، كانت تطرأُ على مسامعنا النكاتُ السمجة التي كان يتندر بها أصحابها في علاقة بـ"الصعايدة"، أو أهل الصعيد المصري، وكثيرًا ما كنت أسأل نفسي: "لماذا الصعايدة بالذات؟"، والحقيقة لم أصل إلى إجابة يقرُّ بها قلبي، لكني حاولتُ أن أنقب في سيرة هؤلاء القوم، الذين نعيش معهم في وطن واحد، ولا يفصلهم عنّا سوى حدودٍ قصيرة، ورغم ذلك نتندر بهم ونسخر من عقلياتهم، وعندما بحثت في سير العظماء الذين أنجبهم الصعيد، حارَ فكري، ولكني في النهاية استطعتُ أن أهتدي إلى الإجابة التي أبحث عنها، أننا دائمًا لا نسخر إلا من ذوي المكانةِ، كي نسقطهم من عيون الناس من جهةٍ ، ونرضي فضولنا وحاجتنا إلى الضحك والتندر من جهة أخرى.

يجهل الكثير من المصريين التاريخ المشرف لأبناء الصعيد ومن الأمثلة على ذلك قصة الداعية الرحالة الجرجاوي

لكن قد يكون لهم عذرهم، لأنهم لم يقرؤوا التاريخ المشرف للصعيد، ربما لو كلفوا أنفسهم وعرفوا القليل عنهم لغيروا رأيهم، لكننا هنا نحاول أن نسلط الضوء على شخصية واحدة، وسنحاول بها أن نضرب "بقوة" على وتر الحب والاعتزاز بهذا الصعيد، الذي صعد بطيبته وسذاجته إلى قلوبنا.

اقرأ/ي أيضًا: "رأس الحسين" بلا مريدين في مصر!

ابنُ القرية من الكتاب إلى الأزهر

هو الداعية الرحالة والشاعر القاضي، ابن قرية "أم قرعان" التابعة لمركز "جرجا" بمحافظة "سوهاج" في صعيد مصر، لا يُعرف على وجه التحديد تاريخ ولادته، لكن أغلب الظن أنها كانت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.

فى البداية كعادة أهل القرية، يرسلون أولادهم إلى الكتاب لكي يتلقوا تعليمهم الأولي، فإذا ما أتمّ الولد حفظ القرآن وأتقنه، أُرسل بعد ذلك إلى الأزهر الشريف ليستكمل تعليمه، وبالفعل ذهب الجرجاوي إلى كتاب قريته "أم قرعان"، ثم إلى "جرجا" ليلتحق بمعهدها القديم، الذي كان يعد من أشهر معاهد الصعيد، ليسافر الجرجاوي بعد ذلك إلى القاهرة ويصبح طالبًا في الأزهر الشريف ويدرس في الجامع الأزهر، ثم اشتغل في المحاماة في المحاكم الشرعية، وأسس صحيفة الإرشاد لتكون منبرًا يعبر فيها عن آرائه وأفكاره، ويبث من خلالها كرهه للإنجليز وتسلطهم، ثم عمل بعد ذلك رئيسًا لجمعية الأزهر العلمية.

الجرجاوي في اليابان..

يأبى قطار التاريخ إلا أن يمر بقرية "أم القرعان"، هناك حيث يشتري الجرجاوي صحيفة ليقرأ فيها أن رئيس وزراء اليابان، أرسل خطابات إلى جميع دول العالم، يطلب منهم أن يرسلوا له المشرعين والفلاسفة، ليحضروا مؤتمرًا ضخمًا تعقده الدولة، يتحدث فيه أهل كل ديانة عن دينهم، ويختار اليابانيون الدين الذي يرونه ملائمًا لحياتهم إن أرادوا.

وعندما قرأ الجرجاوى هذا الخبر، أخذ يستحثُّ علماء الأزهر أن يبعثوا بمجموعة من العلماء ليشاركوا في هذا المؤتمر، لكنَّ حماسه الزائد، ومشاعر الحب الصادقة منه تجاه الدعوة والدين قوبلت برد بارد، فردوا عليه: "إن شاء الله، ربنا يسهل"، كأنهم بهذا الرد يواجهون دعوته إلى المؤتمر بالنفي، لكن حرصًا منهم على مشاعره، كانوا يردون بهذه العبارات.

لم يجد الجرجاوي مساندة من الأزهر للسفر إلى اليابان لكنه لم يستسلم وبعد سفره، لخص أهم ما جاء في رحلته في كتاب

وقد قال الجرجاوي فى كتابه "الرحلة اليابانية": "أخذتُ أبحثُ عمن يرافقُنى في هذه الرحلة، في الدعوة إلى اليابان، فكان ذلك أندر من عود الكبريت"، لكنَّ الجرجاوي لم يستسلم ولم يرفع الراية البيضاء، وذهب إلى قريته وباع "خمسةَ أفدنة" كانت هي كل ما يملك، ليجدَ ما يستعين به في رحلته.

اقرأ/ي أيضًا: 8 مواقع إلكترونية تساعدك في السفر

وكانت بداية الرحلة من ميناء الإسكندرية، حيثُ استقلَّ الباخرة الذاهبة إلى إيطاليا، ومنها إلى عدن، ثم إلى بومباي فى الهند، ومنها إلى جزيرة كولمبو في جزيرة سيلان "سيريلانكا حاليًا"، ومن هناك استقل باخرة إلى سنغافورة، ثم إلى هونج كونج، ليصل أخيرًا إلى ميناء يوكاهاما، بعد رحلة طويلة وعجيبة كان خلالها يسجل كل ما يرى من عادات وتقاليد أهل البلد التي يمكث فيها.

الجرجاوي والذين معه..

عندما وصل الجرجاوي إلى اليابان، وجد أن هناك مشايخ قد سبقوه، وقد اتخذوا أيضًا ذات الطريق الذي اتخذه كي يقوم بهذه الرحلة، وهو أن جميعهم قد أتوا على نفقتهم الخاصة، فقد تفاجأ الشيخ الصعيدي بوجود مشايخ من الهند وتونس والصين وروسيا وتركيا، كما وجدوا أن السلطان العثماني عبدالحميد الثاني قد أرسل وفدًا من العلماء الأتراك للمشاركة نيابة عن العلماء المسلمين في هذا المؤتمر.

وبعد مشاركته في المؤتمر حاول الجرجاوي أن يستغل المدة التي قضاها في العاصمة اليابانية طوكيو، لذلك قام بمعاونة مشايخ من الهند والصين، بتأسيس جمعية إسلامية، هدفها الدعوة إلى الإسلام ونشره، واستأجروا المكان من أحد التجار اليابانيين، عاونهم في ذلك أحد اليابانيين حيث كان مسؤولاً عن الإعداد للمحاضرات كما كان يقوم بترجمة الخطب والدروس من العربية إلى اليابانية، حتّى أسلم على أيديهم ما يقرب من 12 ألف ياباني، كما قال الجرجاوي فى كتابه.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أبدى إمبراطور اليابان فى ذلك الوقت "ألماكيدو" إعجابه بالإسلام، وكاد أن يسلم لولا أنه خاف على منصبه فصرف النظر عن الأمر مرة أخرى، لكنه وعد الجرجاوي لو وافق الوزراء على تغيير الديانة الأصلية فسيختار الإسلام بلا أدنى شك، حسب رواية الجرجاوي في كتابه. عاد الجرجاوي إلى مصر ووصف هذه الرحلة في كتابه "الرحلة اليابانية". وهذا نموذج واحد من تاريخ مشرف لأبناء الصعيد يجهله الكثيرون.

اقرأ/ي أيضًا:

12 درسًا قيّمًا يمكنك تعلمها من السفر بمفردك

الصوفية في تونس.. رقم بلا معنى؟