14-أغسطس-2018

يعد مفهوم الاشتراكية الديمقراطية محل نزاع (New Socialist)

يناقش أستاذ علم الاجتماع بجامعة ماركيت في الولايات المتحدة الأمريكية، مايكل ماكارثي مفهوم الاشتراكية الديمقراطية من خلال نماذج ما أسماها دول الرفاه الشمالية، فنلندا والنرويج والسويد، مع تركيزه على ما يمثله النموذج النرويجي وموقعه على طيف الاشتراكية الديمقراطية، وذلك في مقال نشرته مجلة "Jacobin"، نستعرضه لكم مترجمًا في السطور التالية.


يعد مفهوم "الاشتراكية الديمقراطية" محل نزاع، لذا فليس هناك وقت أفضل من الآن لطرح أفكار توضح أهدافنا بعيدة المدى وإستراتيجياتنا قصيرة الأجل. وبحسب ما ذكرت أنا وماثيو ديسان مؤخرًا عبر موقع جاكوبين، فإن امتلاكنا لرؤية تتجاوز الرأسمالية وترسخ الديمقراطية سيساعدنا على إرساء تساوي الفرص والتضامن الاجتماعي، وهي أهداف محورية يجب أن ترشد أي مجتمع جيد.

امتلاكنا لرؤية تتجاوز الرأسمالية وترسخ الديمقراطية، سيساعدنا على إرساء تساوي الفرص والتضامن الاجتماعي

طرح مات برونغ سؤالًا مهمًا تعقيبًا على ما نشرناه، وهو أين تقع الديمقراطيات الاشتراكية لدول الشمال على طيف الاشتراكية الديمقراطية أو الاجتماعية؟ يقر مات بأن الاتحاد السوفيتي لم يكن دولة ديمقراطيًة، لأن الدولة لم تكن خاضعة لمساءلة الشعب. لكنه يقول بأن هذا النقد لا ينطبق على دول الشمال، فهي ديمقراطيات برلمانية. لذا، فمن الخطأ وضع خط فاصل بين تصورنا عن الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطية الاشتراكية الموجودة فعليًا كالنرويج.

اقرأ/ي أيضًا: ديمقراطية الثالوث الاشتراكي تحاكم الشعبوية.. وزيرة عدل النرويج في فخ العنصرية

تتمثل الفكرة إذًا في سؤال بسيط: هل ترسم دول مثل النرويج غاية ما يمكننا أن نعتبره الشكل الممكن لاقتصاد ومجتمع مُدارين ديمقراطيًا؟ وإن كان ذلك صحيحًا، فهل الديمقراطية الاشتراكية هي ذاتها الاشتراكية الديمقراطية في جوهر الأمر؟

لا أقول بأن دول الشمال ليست ديمقراطية مثل الاتحاد السوفيتي، لكني أرى بأنه حتى في دول الشمال، حيث توجد ديمقراطية سياسية، فإن توفر الاشتراكية الديمقراطية سيمنح المجتمع المزيد من الديمقراطية والملكية العامة للاقتصاد مقارنة بالوضع الراهن.

الاشتراكية الديمقراطية ليست الديمقراطية الاشتراكية

دول الشمال؛ فنلندا والنرويج والسويد، هي ديمقراطيات اشتراكية. لدى تلك الدول ديمقراطيات تمثيلية دستورية ومزايا واسعة للرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى مساومة جماعية نقابوية بين العمالة ورأس المال تديرها الحكومة، علاوة على بعض من ملكية الدولة للاقتصاد. ما تزال هذه المؤسسات أفضل بكثير قياسًا بما في أرضنا النيوليبرالية المقفرة.

لكن حتى ولو حظيت الأيدي العاملة بصوت أعلى وأكثر تأثيرًا، سواءً في مكان العمل أو في إدارة الاقتصاد، فإن سيطرة الرأسمالية تبقى جاثمةً على الغالبية العظمى من أماكن العمل.

تتسم الملكية العامة للأصول الإنتاجية الرئيسية في الديمقراطية الاشتراكية، بمحدوديتها بالنسبة لما يمكن أن تكون عليه. فلتنظر إلى النرويج، باعتبارها المثال الأبرز. يؤكد برونغ على ملكيتها العامة بإشارته إلى امتلاك الدولة 74 شركة. وهذ ليس أمرًا هينًا، فالشركات المملوكة للدولة في النرويج تمثل ما يقرب من 60% من إجمالي الناتج المحلي. وتنتج شركة إكواينور، شركة النفط المملوكة للدولة، أغلب ذلك، والتي تمثل حوالي 60% من الأسهم المملوكة للدولة (تملك الدولة ما يقرب من 67% من أسهم الشركة). وتوظف الشركات المملوكة للدولة في المجمل، بما في ذلك شركة النفط، حوالي 280 ألف عامل.

إلا أن الأرقام المرسلة خدَّاعة حين تُجرد من سياقها. هناك حوالي 2.8 مليون عامل موظف في النرويج. ويعمل 10% فقط من القوى العاملة في تلك الشركات المملوكة للدولة. يوظف القطاع العام في المجمل ما يقرب من 30% من القوى العاملة، وهي أعلى نسبة في العالم الرأسمالي.

وعلى الرغم من أن هذا عظيمٌ بالتأكيد قياسًا بالديمقراطيات الرأسمالية الأخرى، فإن الدولة النرويجية لا زالت تُلجئ الغالبية العظمى من القوى العاملة للعمل في الشركات الرأسمالية لضمان قُوتهم. والحال في الديمقراطيات الاشتراكية الأخرى أسوأ حتى من ذلك.

أما على الجانب الآخر، فينبغي أن تبسُط الاشتراكية الديمقراطية الملكية العاملة على الغالبية العظمى من مصادر الإنتاج في المجتمع، وأن تقوض من حقيقة اضطرار العمال للعمل لدى من يملكون مصادر الإنتاج كملكية خاصة، بالإضافة إلى إرساء مؤسسات ديمقراطية أقوى ليس فقط داخل الدولة بل داخل أماكن العمل والمجتمعات الصغيرة كذلك. يمثل توصيفنا للاشتراكية الديمقراطية ترسيخًا عميقًا للديمقراطية في الاقتصاد أيضًا.

هذا الفصل والتمييز محوري للغاية، لكن  يبدو أن برونغ يتجاهله. وبفعله ذلك، فهو يتجاهل ما هو في الحقيقة على المحك في هذا النقاش؛ وهو لماذا يظن برونغ أن المحدودية النسبية للملكية العامة والديمقراطية الاقتصادية في دول الديمقراطيات الاشتراكية إما مفضلة أو أكثر عملية من وضع أكثر شمولية.

لا يتعلق هذا النقاش بالمزيد من أهداف السياسة قصيرة المدى، بل يجب أن يكون تعدد المؤسسات الديمقراطية الاشتراكية مطلبًا مركزيًا للاشتراكيين اليوم. إنه يتعلق برؤيتنا طويلة المدى كاشتراكيين.

حدود الديمقراطية الاشتراكية

يقبع في القلب من حدود الديمقراطية الاشتراكية مشكلة تبقى مهيمنةً على كل المجتمعات التي تعول بقوة على الشركات الرأسمالية للتوظيف، ألا وهي: ما هي أكثر أشكال السلطة أهمية؟ حتى مع وجود ديمقراطية سياسية قوية، فإن السلطة في المجتمعات ذات الاقتصادات الرأسمالية في المقام الأول لا تُمارَس بشكل رئيسي من خلال البرلمان. إذ تتخذ الشركات ذات القدرة البسيطة على تخصيص استثماراتها ومواردها، قرارات خاصة ذات أثر ضخم على المجال العام. وهذه السلطة تقوض من سلطة مؤسسات الديمقراطية التمثيلية.

وحتى في أفضل الديمقراطيات الرسمية -ذات الانتخابات الحرة والنزيهة- سيظل استحواذ الشركات الخاصة على نفوذ غير متكافئ قائمًا على المسؤولين المُنتَخبين الذين يقعون تحت ضغط لدعم سياسات تحمي أرباح تلك الشركات. لكن كيف يحدث هذا إذا كانوا منتخبين وخاضعين للمساءلة؟ لماذا، حتى في الديمقراطيات الاشتراكية، حيث ملاك الشركات الرأسمالية هم أقلية ضئيلة من جموع الناخبين، يدافع البيروقراطيون عن أرباح أولئك الملاك.

يرجع ذلك إلى أن أرزاق معظم الناس معتمدة على الشركات بشكل كبير، لذا ينزع الناخبون والساسة إلى تفضيل سياسات تُسعد الشركات. أما في حالة وجود تقدُم منهج اشتراكي، تملك الشركات القدرة على سحب استثماراتها.

يقلل تراجع الاقتصاد عائدات الدولة من الضرائب، ويبدد الوظائف وينتهي عادةً بخسارة الساسة الاشتراكيين في الانتخابات، ومحاولة تصحيح الأوضاع عن طريق سياسات التقشف، أو بالإقصاء عنوة بانقلاب عسكري. يعمل الاقتصاد الرأسمالي كعقاب ارتدادي تلقائي تجاه إداريي الدولة المنتخبين ديمقراطيًا الذين يحاولون إنشاء مؤسسات اشتراكية لدوائرهم الانتخابية.

يعمل الاقتصاد الرأسمالي كعقاب ارتدادي تلقائي تجاه إداريي الدولة المنتخبين ديمقراطيًا الذين يحاولون إنشاء مؤسسات اشتراكية لدوائرهم الانتخابية

هذا بالتحديد هو سبب فشل تطبيق مشروع "صندوق ميدنر للعمال الأُجراء في السويد" بشكل كامل، وهو مشروع كان يهدف إلى تحويل ملكية الشركات من ملكية رأس المال إلى الملكية العامة، وهو ما أُكِّن له أنا وبرونغ إعجابًا شديدًا، ونود أن نراه مطبقًا بشكل من الأشكال. فعلى رغم الدعم الديمقراطي للمشروع، فقد شكل تهديدًا وجوديًا للرأسماليين ومن ثم استخدموا سلطتهم لتقويضه. حتى في أفضل الديمقراطيات الاشتراكية، تبقى المقاربة بين الرأسمالية والديمقراطية غير مستقرة.

اقرأ/ي أيضًا: مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

هل تحتوي النرويج على مؤسسات من شأنها مواجهة الإضرابات الرأسمالية؟ إذا اُسترشد بمبادئ الاستثمار الاشتراكية، يبدو أن صندوق الثروة السيادية النرويجي يمكن أن يشكل خط دفاع ضد هذا النوع من السلطة التجارية.

تأسس الصندوق في عام 1990 كوسيلة لاستثمار فائض الأرباح من شركة النفط الحكومية. وبحلول عام 2017 نما بشكل كبير إلى ثمانية آلاف مليار و488 مليون كرون. في حالة إضراب رأس المال، يمكن أن يعاد تخصيص الأصول لمواجهة فقدان الوظائف المحلية أو الاستثمارات المسحوبة بواسطة شركات تستخدم سلطتها الخاصة لمواجهة السياسات الاشتراكية العامة.

إلا أن الصندوق لم يستخدم قط بهذه الطريقة، وسيحتاج الوضع إلى تغييرات جذرية ليتمكن الصندوق من إضعاف سلطة الشركات المحلية. وعلى خلاف صندوق النرويج الأصغر بكثير، "فولكتريجدفوندت - folketrygdfondet"، فإن صندوق الثروة السيادية، ليس مستثمرًا محليًا، بل يستثمر عالميًا لتجنب مخاطر أزمات اقتصادية أكثر محلية، ويملك في المتوسط 1.4% من كل شركة مدرجة في البورصة في العالم.

ويذكر للصندوق لعبه دورًا نشطًا في سحب استثماراته من بعض أكثر المنتجات ضررًا (التبغ والأسلحة النووية والأسلحة العنقودية والفحم)، واستخدامه صوت المساهمين في كثير من الأحيان لمحاولة تغيير ممارسات أكبر الشركات في العالم.

إلا أن الصندوق يقوده في نهاية المطاف حافز الربح، وتُقيّده المنافسات الرأسمالية العالمية. كانت التكاليف النقدية لاتخاذ هذه المواقف المبنية على المبادئ، صغيرة للغاية، إذا اُستُخدم الصندوق كحصن ضد سحب الاستثمارات الرأسمالية، فسيتعين عليه تحمل مخاطر أكبر بكثير وربما الاستثمارالخاسر في بعض المشاريع.

يجلب الصندوق فوائد حقيقية للشعب النرويجي، كما أنه يوفر فرصًا حقيقية لمنافسة المنطق الرأسمالي للاستثمار. إلا أن احتمالية تيسيره التحول للاشتراكية الديمقراطية ليست دليلًا على أن النرويج بالفعل اشتراكية ديمقراطية.

المزيد من الديمقرطية.. المزيد من الملكية العامة

تحوي الديمقراطية الاشتراكية نوعًا من التناقض. يعتمد إنشاؤها على الإضرابات الشاملة وعلى تنامي تنظيم الاتحادات، ما يخلق منظمات سياسية فعالة وإصلاحات للرعاية الاجتماعية ومؤسسات للمشاركة العمالية في الاقتصاد. هذه جميعًا أهداف علينا أن نسعى لها.

إلا أنه تاريخيًا، ومع توطيد الديمقراطيات الاشتراكية لنفسها، يجد الممثلون الرئيسيون لمختلف القوى الاجتماعية التي قادت هذه التعديلات، من مسؤولين حكوميين وممثلي اتحادات، أنفسهم مضطرين إلى احتواء هياج الطبقة العاملة ووحدتها وهو ما جعل تعديلات كتلك ممكنة في المقام الأول لاسترضاء أصحاب رأس المال.

حين تقوّض الأزمة الرأسمالية النمو، تميل هذه التحالفات المضطربة إلى الانهيار وغالبًا ما تنكفئ الديمقراطيات الاجتماعية على مساراتها الخاصة نحو حركة تحررية يمينية، وهي سمة تتقاسمها مع أنواع مختلفة من الاقتصادات الرأسمالية، مثل الدنمارك وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة.

أما المصادفة البحتة التي أدت لاكتشاف النفط في النرويج في أوائل السبعينات، وهو السبب الرئيسي في امتلاك الدولة لجزء ضخم من الناتج المحلي والسبب أيضًا في امتلاك الدولة لصندوق الثروة السيادية الهام في المقام الأول، فلا تمثل سببًا كافيًا لتجاهل العقبات تجاه ديمقراطية وملكية عامة أكثر كمالًا.

إذا كانت الاشتراكية الديمقراطية هي ما نعده نموذجنا التوجيهي لمجتمع ديمقراطي، فماذا نضع على المحك حين نصر على أن الديمقراطيات الاشتراكية لدول الشمال هي في الواقع اشتراكيات ديمقراطية؟ إحدى الإجابات هي أن فعل ذلك يمكن أن يناهض الحجج المحافظة سيئة النية التي تساوي أي ازدياد للتدخل الاجتماعي في الاقتصاد بالأنظمة الشمولية الفاشلة. لكن في حالة كتلك، لماذا لا نلجأ إلى ما هو أسهل وندافع عن هذا على أسس ديمقراطية اشتراكية صريحة؟ لماذا تتكلف عناء وصف نفسك بالاشتراكي؟

تحوي الديمقراطية الاشتراكية نوعًا من التناقض يعتمد على الإضرابات وتنظيم الاتحادات ما يخلق منظمات سياسية فعالة

لا تُخطئ فهمي، فدولة رفاه على الطراز الشمالي، ستكون أفضل بكثير من بديلنا النيوليبرالي، وعلينا أن نعمل تجاه إنشاء بعض من مؤسساتها الأهم هنا في الولايات المتحدة. لكن وصف أنفسنا بالاشتراكيين الديمقراطيين، يعني أننا نعبر عن طموح أعمق لدمقرطة المجتمع مما يمكن أن تسمح به الديمقراطية الاشتراكية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تعني الاشتراكية العدالة في توزيع الفقر؟

القفز عن الديمقراطية بالاستثنائية الاقتصادية.. كيف يغذي رجال البنوك الشعبوية؟