30-نوفمبر-2016

نازحون عراقيون قرب أحد مخيمات النزوح القسرية من الموصل (توماس كويكس/أ.ف.ب)

قصص النزوح والتهجير القسري في العراق مليئة بكوميديا سوداء. ولا تفارقها "التفاصيل" الساخرة بقدر ارتباطها الوثيق بالألم. فلا تلتقي بنازح إلا ويتحدث عن موقف تحوطه الطرافة، أو حادثة "غريبة" مر بها عند تعرضه للتهجير تستحق لقب "نكتة الموسم". هذا تمامًا ما حصل مع أحد المهجرين قسرًا من العاصمة بغداد. فهو صاحب أغرب قصة تهجير قسري مرت على مسامعي. الرجل "سني" المذهب. وهذا ذنبه الوحيد، وفق قانون "الطائفية الدموي"، الذي يصنف الناس وفقًا لمذاهبهم وانتماءاتهم الأولى.

يعاني العراقيون من تهجير قسري قائم على الطائفية وتسرق ممتلكاتهم وتباع أمام عيونهم

يقول الرجل لـ"ألترا صوت": "اعتدت على الروتين التقليدي. أمارس عملي في إدارة إحدى المحلات التجارية في العاصمة بغداد. أعود في المساء إلى منزلي، وما بين فترة خروجي وعودتي لا تتوقف الاتصالات من قبل زوجتي ووالدتي للاطمئنان عليّ. حتى بت أعرف المتصل قبل رؤيتي شاشة الهاتف. في شهر رمضان الماضي، تغير هذا الروتين واقتحمته الإثارة والدراما، عندما فوجئت بعدد من السيارات التابعة لميليشيا شيعية متنفذة تطوق منزلي. باختصار راحت تطالبني المجموعة بدفع مبلغ قدره 60 مليون دينار عراقي. بكل ارتباك وصدق أجبتهم لا أملك هكذا مبلغ. وانا أتذكر صور جثث الذين مروا بمثل موقفي، الملقاة في منطقة السدة، والجثث العالقة في الطب العدلي منذ سنوات. لكن ماذا أجيبهم؟ فصدقًا لا أملك مبلغًا كهذا. إجابتي الصادقة، كانت سببًا في امتعاضهم، وزيادة حدة التهديد والوعيد. بينما الحيرة تحتويني أفكر بحل للخلاص من هذه المسرحية الدموية، قطع سلسلة أفكاري أحدهم، يسألني كم سعر منزلك؟".

أقرأ/ي: "الأقلية العراقية" في العراق

أجبته: "منزلي حوالي 120 مليون دينار عراقي"، فور سماعه الإجابة، أخذ ينظر إلى عيون رفاقه كأنه اهتدى إلى سؤال وجودي، أو عثر على كنز مفقود يبحث عنه منذ عصر التكوين، قال الحل إذًا، نقوم ببيع منزلك بـ60 مليون دينار ونحن نأتي بشخص ليشتريه، وتبيع له المنزل. وتقوم بإجراءات التحويل بشكل قانوني. ونحن نحصل على المال المطلوب، وإلى حين أن تتم إجراءات بيع المنزل، عليك أن توقع على هذه الـ"كمبيالات" حتى نضمن عدم هروبك".

 هكذا تطورت فلسفة التهجير الطائفي. وبهكذا بعد سياسي خطير وقانوني أخذت تتمدد، حتى إن فكر يومًا، هذا الرجل، بالعودة إلى منزله عند انتهاء عصر التهجير، فلا حق له قانونيًا باسترداد منزله، ولا يمتلك دليلًا ملموسًا يثبت مظلوميته أمام القضاء.

باع بلال (اسم مستعار) منزله بالمبلغ الذي طلبوه إلى المشتري الذي اختاروه. بالمبلغ الذي حددوه، لكنهم مع ذلك لم يتركوه وحيدًا. فجشعهم أبى إلا أن يطال محل رزقه الذي يعيل عائلته. قاموا بسرقة بضاعته تحت ضوء النهار. ليتصلوا به مرة أخرى، مطالبين إياه بأن يحضر مبلغًا قدره ثلاثة ملايين دينار؛ كي يسلمه إلى دائرة الضريبة لتتم رسوم البيع. "أعني رسوم بيع منزلي مقابل نجاة عائلتي"، هذا ما يرويه بلال، في حديثه مع "ألترا صوت"، حيث "ما إن ذهبوا عني حتى هربت في ليلة صيف شديدة القيظ إلى إحدى المحافظات الشمالية، بعد أن كنت في فضل ونعمة. وها أنا الآن أشتغل عاملًا، مهجرًا لا أملك فلسًا".

يروي بلال لـ"ألترا صوت" قصة تهجيره القسري وتخليه عن ممتلكاته ليبقى على قيد الحياة مع عائلته

قصة بلال، تشبه الآلاف من الذين يتعرضون إلى تهجير قسري يوميًا في بغداد وديالى ومناطق من صلاح الدين وكركوك وأطراف الموصل. قصص مؤلمة كثيرة، بعضها يحتوي على تفاصيل نجاة هؤلاء من موت محتمل، وبعضها الآخر موصوم بالدم، بعد خسارتهم مالهم وأملاكهم وأرواح أقرب الناس إليهم.

إن هذا التطور الخطير في فلسفة التهجير والتغيير الديموغرافي الطائفي، فاق أساليب الكيان المغتصب في فلسطين. أما عن هذه الميليشات الطائفية هي أكثر من كونها عصابات إجرامية جنائية، إنما هي في الوقت ذاته، تعمل على تحقيق أهداف سياسية عقدية "مريضة"، هدفها السيطرة على المناطق "السنية".

حيث لم تتوقف هذه الميليشات في ممارسة جرائمها وأهدافها بالتغيير الديموغرافي، في المناطق المتنازع عليها أو التي يكثر فيها أفراد طائفة محددة. إذ منذ فترة وتحاول الميليشيات والأطراف السياسية في كربلاء بشكل مكثف الاستيلاء على قضاء النخيب التابع إلى محافظة الأنبار ذات الغالبية السنية.

ولم تقتصر محاولات الاستيلاء على قضاء النخيب بالتحديد، إنما طالت ناحية الرحالية. إذ تحذر تقارير إنسانية وإعلامية، من استمرار عمليات التهجير القسري، مع استمرار الاعتقالات العشوائية بحق السكان. من قبل الميليشات طائفية بتعاون واضح من قبل الأجهزة الأمنية. مقابل صمت حكومي، وموقف محلي من قبل مجلس محافظة الأنبار ومحافظها، لا غرابة إذا اتهم بالتواطؤ. في ظل تساؤل محلي هل ستقتصر محاولات الاستيلاء على النخيب والرحالية أم تستمر إلى مدن الأنبار الأخرى؟

تمارس الميليشيات العراقية الطائفية فظائعها تحت مظلة المادة 140 من الدستور المعنية بالمناطق المتنازع عليها

خاصة والتوقعات تفيد بأن المرحلة القادمة والتطور الأخير من تطور "فلسفة التهجير الطائفي"، واعتماد الميليشيات على "شرعنة دستورية"، تحت مظلمة المادة 140 المعنية بالمناطق المتنازع عليها، تتجه نحو إتمام مخطط تغيير ديموغرافي طائفي، متنام في العراق.

والتهجير في العراق، بكل أصنافه لم يعد حوادث متفرقة، بل أمسى واقعًا معلنًا، وتوثقه الإحصاءات والأرقام. وبلغ من الخطورة الحد الذي دفع بمنظمات مثل "أيادي الرحمة" و"الغد" ومنظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة ومنظمة العناية بالصحة الدولية لنجدة العائلات المهجرة في بغداد ومحافظات أخرى، بسبب كثرة "التوحش" الذي تمارسه "الميليشيات" المتنقلة.

ويبدو أن عمليات التهجير قد بدأت عرقيًا قبل ما يقرب من ثلاثة عقود وفق ما كان يسمى وقتها بـ"التهجير الصدامي"، وشمل شرائح واسعة من الأكراد القاطنين في إقليم كردستان شمالًا والشيعة جنوبًا. وكان المشهد يحصل بآلية مدروسة من قبل النظام السابق، وراح ضحيته الملايين من كلا الطائفتين، بعد أن أمسوا، إما عائلات وأفراد مهجرين في داخل العراق وفي المنافي أو تلال من العظام التي تم نبشها بعيد سقوط نظام البعث. حتى أن البعض وصف الدولة العراقية بعد سقوطها في نيسان/أبريل عام 2003 بـ"الدولة الفتاكة". فهل نشهد اليوم، امتثالًا ممنهجًا للنظام الدكتاتوري، باسم "الحشد الشعبي" و"ميليشيات" الطوائف الجوالة؟

اقرأ/ي أيضًا:

مؤتمر الموصل في باريس.. سباق الغموض والعمومية

بعد 13 عامًا..التجنيد الإجباري مجددًا في العراق