24-أكتوبر-2016

مشهد من فيلم الإرهاب والكباب

هل تذكرون فيلم "الإرهاب والكباب" بطولة عادل إمام وإخراج شريف عرفة؟ هناك دور صغير جدًا، ولكنه بالغ التأثير قام به ممثل نوبي لا أعرف اسمه. لم ينطق هذا الممثل إلا بعبارة واحدة طوال الفيلم وهى "في أوروبا والدول المتقدمة يفعلون كيت وكيت وكيت".

تكلّمه عن الأكل فيقول لك "في أوروبا والدول المتقدمة". وهو يردد العبارة بنفس النبرة، بنفس تعبيرات الوجه، باختصار هو منوَّم مغناطيسيًا أو مبرمَج كالآلة على نغمة "في أوروبا والدول المتقدمة" بشكل يثير السخرية.

لماذا وضع صنّاع الفيلم هذه العبارة على لسان ممثل "أسود"؟ ربما لأن لونه يجسّد المفارقة بشكل بصري. أكثر من يتغنّى بأوروبا المتقدمة هو أكثر المصريين بُعدًا عنها. هذا إذا افترضنا حُسن النية.

ليس كل من هاجم الأصوليين -كما فعل عادل إمام- تقدميًا أو في جبهة التقدّم

أما إذا افترضنا سوء النية فسيكون الغرض هو القيام بسخرية مزدوجة من الفكرة ذاتها ومن حاملها، وهو يمثّل إحدى الأقليات التي نالت نصيبًا وافرًا من السخرية في السينما المصرية دون أن تتحرك "الرقابة" لكي تحميها. فالرقابة تحمينا فقط من مشاهد الحب، لأن الحب عورة يجب التستر عليه، أما عنصرية اللون فهي أمر طبيعي وعادي.

لم يكتف عادل إمام بالسخرية من التقدم في فيلم "الإرهاب والكباب"، لكنه واصل مهمته المقدّسة في فيلم "السفارة في العمارة" حين سلّط الضوء على أسرة من "اليسار التقدمي" لكي تكون مادة للسخرية الناعمة. فاليسار التقدمي كما قدّمه الفيلم يعني أن تنطق برطانة غير مفهومة وأن تعيش في كهف خارج التاريخ، بل أن تكون رائحتك نتنة (مثلما هو حال معظم الأقليات في مختلف بقاع العالم).

اقرأ/ أيضًا: السفسطائيون الجدد

القيمة شبه الإيجابية الوحيدة لدى هذه الأسرة هي عداؤها للتطبيع مع إسرائيل، وإن كان هذا العداء يأخذ أشكالًا تنمّ عن عُصاب نفسي مثير للضحك. الشيء الوحيد الذي لا يثير الضحك في أسرة اليسار التقدمي هو ابنتهم "المُزّة" داليا البحيري، التي من أجل خاطر عيونها السود وضع عادل إمام صور لينين عنده في البيت.

هكذا لم يخرج عادل إمام في الجوهر عن الحملة التي شنّتها القوى المحافظة. والعظة التي نستخلصها منها هنا هي أنه ليس كل من هاجم الأصوليين -كما فعل عادل إمام- تقدميًا أو في جبهة التقدّم. لأن هناك طريقة علمانية أو شبه علمانية لرفض التقدم، كما هو الحال لدى الدكتور عبد الوهاب المسيري والدكتور جلال أمين الذي خصص كتابًا كاملًا لنقد الفكرة سمّاه "خرافة التقدّم والتأخر".

لماذا يصبح التقدم خرافة؟ لأنه -وفقًا لأمين- يقوم على تصنيف للمجتمعات، بعضها متقدمة والأخرى متأخرة، بينما في الحقيقة التقدم والتخلّف نسبيان وكلاهما يتوقف على كيفية تعريفه.

بالإضافة إلى ذلك يرى أمين أن فكرة التقدّم تمّ غرسها في ذهن المصريين بواسطة الأجانب والمصريين المتغرّبين. والدليل الذي يسوقه الكاتب على ذلك هو أن فكرة التقدم لا تجدها عند بسطاء الناس، لأن هؤلاء لم يتعرّضوا لما تعرّضت له "النخبة" من مؤثرات أجنبية أو قُل "غسيل دماغ".

ولكن الحقيقة في رأيي غير ذلك تمامًا. مصطلح الدول المتقدمة شائع على لسان الناس البسطاء. وإذا كان قد تراجع في مصر فذلك بفعل نشاط دؤوب لنخب قالت للناس إن التقدّم عيب، لأنه يأتي بآفات كثيرة مثل الانحلال الجنسي وتفكك الأسرة والعلمانية..إلخ.

اقرأ/ أيضًا: أوصيكم بالناس شرًا

وإذا كان مصطلح "التقدم" قد تراجع في اللغة اليومية لعموم المصريين ولنخبتهم فذلك لا يعني على الإطلاق أنهم تخلّوا عن الفكرة، فالأهم مما يقوله الناس هو ما يفعلونه. والناس يصوّتون بأقدامهم وليس فقط بحناجرهم، فملايين المصريين الذين أخذتهم أقدامهم للهجرة إلى بلاد أخرى والذين لا يزالون واقفين أمام أبواب سفارات دول أجنبية والذين اختاروا عبور البحر في مراكب صيد قد صوّتوا بالفعل على أن هناك دولاً متقدمة عنّا بالفعل.

المثير للدهشة أن ميل المقارنة عند الناس لم يعد يقتصر على تلك التي بين مصر والبلاد الصناعية وما بعد الصناعية، وإنما أيضًا مع بلاد ريعية، مثل دول الخليج العربي، الذي بات الكثير من المصريين يتغنّون بنظافته ونظامه.

التقدم ليس خرافة، لكنه حقيقة راسخة في ذهن الناس. ودور العلوم الاجتماعية هو التفاعل النقدي والتأصيلي مع الفكرة وليس نفيها

التقدم ليس فكرة "غربية" مستوردة، كما يشير الدكتور أمين، إنه فكرة عالمية عابرة للثقافات. صحيح أن محاولات تأصيلها علميًا بدأت في جامعات البلاد الصناعية وما بعد الصناعية، لكن الفكرة البسيطة موجودة مع الإنسان منذ فجر التاريخ. فلماذا كانت الهجرة والانتقال إلا إذا كان الناس يعتقدون أن هناك بلادًا أفضل من بلاد أخرى؟

فكرة التقدم لا تخالف فطرة الإنسان الفرد، كما يشير الدكتور أمين. صحيح أن الفرد لا يرى في نفسه مسيرة دائمة نحو التقدم، ولكن باعتباره صعودًا من الطفولة إلى المراهقة إلى النضج، ثم هبوطًا من النضج إلى العجز ثم الممات. إلا أن الإنسان حيوان اجتماعي وهو قادر على الإحساس بأنه جزء من مسيرة صاعدة تقدمية، حتى لو كان هو شخصيًا في حالة غروب، سواء بواسطة استمراريته من خلال أبنائه الذين يصرّ على أن يكونوا أفضل منه، أو من خلال تقدم الجماعة أو المجتمع الذي ينتمي إليه.

التقدم ليس خرافة، لكنه حقيقة راسخة في ذهن الناس. ودور العلوم الاجتماعية هو التفاعل النقدي والتأصيلي مع الفكرة وليس نفيها. فليُعرِّف كلّ منا التقدم كما يشاء، وليغيّر المصطلح كما يشاء، فليسمّه إصلاحًا أو تنميةً أو تحسّنًا، ولينزع عنه أي تحيّز ثقافي أو عنصري لصالح مجتمعات أخرى، لكن رفض فكرة التقدم هو رفض لشيء أصيل في الإنسان، إنه رفض للطاقة المحركة لحياة الإنسان الواعي.

اقرأ/ أيضًا:
في الحاجة إلى "جريندايزر" فلسطيني!
حفلة التفاهة