07-سبتمبر-2016

رسم من القرن الرابع عشر يُظهر استسلام بني النضير إلى المسلمين

جاء في كتاب "لسان العرب" لابن منظور، حين عرف كلمة "شفق" أنها من "الشفق والشفقة: الاسم من الإشفاق. والشفق: الخيفة. شفق شفقًا فهو شفق، والجمع شفقون"، وأضاف في مطرحٍ آخر مكملًا و"الشفق أيضًا: الشفقة وهو أن يكون الناصح من بلوغ النصح خائفًا على المنصوح. تقول: أشفقت عليه إن يناله مكروه".

لطالما تساءلت من أين استمد الإنسان شعور "الشفقة"، أي ذلك الإحساس الذي يجعله عطوفًا، ومليئًا بالحنان، عند سماعه خبر مؤلم، أو وقوع كارثة، لا فرق إن كانت بشرية أو طبيعة. جرت العادة في عشوائيات منطقتنا خصوصًا، والموروث التاريخي عمومًا، أن يرافق أي خبر مأساوي، كلمة "يا حرام"، اختصارًا لجمل طويلة من التعاطف والإشفاق على الشخص صاحب المأساة.

ما تطور مع الحياة، شعور الشفقة الذي بات يلازمنا، وتحول تدريجيًا للتنصل من فعل لم يقترفه الإنسان

في منطقتنا العربية، تُزرع بذور الشفق لدى الإنسان في عامه الدراسي الأول، عندما يبدأ المعلم رحلة التعرف على الطلاب، فإذا كان والد أحدهم متوفٍ، أو طالب آخر صادف أن وضع عائلته الاقتصادي سيئ جدًا، ينظر إليه المعلم نظرة شفقة، كتعبير عن التضامن مع أيٍ منهما.

اقرأ/ أيضًا: في الحاجة إلى "جريندايزر" فلسطيني!

في المدرسة أيضًا، تبدأ أولى شفقة الخوف، حين يأتي أحد الطلاب في اليوم التالي، ولم يكن قد أنجز وظائفه، لحظة تعرضه للضرب، هي الدقيقة التي تصيب باقي الطلاب بالخوف، الشرر المتطاير من أعين جميع المعلمين، صراخهم الحاد المتوعد بالمزيد من العقوبة إذا لم ينفذ الواجب المدرسي، يلامس فكرة حنة أرندنت حول أن الشر عادي ومبتذل، ومسببه النظم السياسية، وبالتالي يجد الطفل نفسه أمام فعلين أوليين يكتسبهما من المدرسة، الخوف والشفقة، والرضوخ للسلطة الأعلى.

في التراث العربي نقرأ الكثير من قصص القسوة، وهو الفعل المضاد للشفقة، ولدينا عديد الأمثلة، من بينها ما يتناقله المؤرخون عن قصة ابن الراوندي، الذي وصف بـ"الملحد"، وصفعه للرجل الفقير بعد تناول بقايا طعام الرجل الغني المرمي على الأرض، أو حتى في وصية دويد بن زيد لأبنائه، عندما افتتحها بالقول "أوصيكم بالناس شرًا".

لكن الحياة في عصرنا الحالي وصلت مراحل متطورة، والمثالان السابقان هما قصص من التاريخ. وهذا فعل طبيعي نظرًا لما يحصل من ابتكارات. إلا أنه ما تطور مع الحياة، شعور الشفقة الذي بات يلازمنا، وتحول تدريجيًا للتنصل من فعل لم يقترفه الإنسان، كما حدث عندما تعرض المحتشدون في "يوم الباستيل لعملية الدهس في "نيس"، يومها تراكض الجميع لتبرئة نفسه، رغم أن منفذ الهجوم كان معروفًا لدى السلطات الفرنسية، لكن العرب متهمون بالإرهاب، ويقابله العكس تمامًا، ولا ضير من استرجاع قول مظفر النواب "إن أطعمت حمامات العالم من قلبك أنت مخرب".

وحتى في إظهار شفقة التضامن مع الضحية، وهذه تحديدًا تتقن فعلها منظمات حقوق الإنسان الدولية، عند أي فعل مأساوي يسارعون للتنديد والاستنكار، الذي ليس سوى شعور بالشفقة، لكنه لن يرجع ساعات الزمن، ولن يقدم للضحية أي تعويض، غير قول: أنا متعاطف معك.

ومثلها المواثيق والاتفاقيات الدولية للنزاعات المسلحة، التي لم تغير شيئًا. هل غيرت صورة عمران من شيء؟ أو ضحايا الهجمات في تونس؟ أو الصور المسربة من داخل السجون المصرية؟ أو أي صور أخرى قادمة عبر أثير الكوكب الافتراضي. لم يتغير سوى ازدياد البيانات عبر المواقع الإلكترونية، ومنشورات الصفحات الزرقاء.

حاليًا تظهر أخبار رئيس الفلبين، رودريغو دوتيرتي، بعد توجيهه بعض الشتائم للرئيس الأمريكي باراك أوباما، العالم بأسره متعاطف معه، والصحف تصف دوتيرتي بالبذيء، وسليط اللسان، من دون أن تلتفت لأي من تصريحات أوباما، ومسبب الفعل، مرة أخرى تحضرنا "متلازمة ستوكهولم" لكن إعلاميًا، رغم أن الشهر الفائت كانت الذكرى السنوية لإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما.

هكذا نجد، أو أجد على الأقل، لبسًا في مفهوم الشفقة، ضمن إطار منطقة الشرق الأوسط، لتصبح إرثًا تاريخيًا أثقل علينا حياتنا الاجتماعية. ربط الشعور بين الخوف والشفق، يجعل في داخلنا صمتًا مفضوحًا، يصدر خارجه كلامًا روتينيًا محببًا لدي جميع الفئات، لأن التعبير عما يجول في داخل المرء يقابله ثمن باهظ، ونحن نتقن دفعه جيدًا.

اقرأ/ أيضًا:
الرمادي يليق بك: غامض و"بين البينين"
حفلة التفاهة