26-سبتمبر-2023
أبسبب أغنية ساخرة يجب أن يموت أكثر من شاب في السجن؟

(Getty) أبسبب أغنية ساخرة يجب أن يموت أكثر من شاب في السجن؟

استيقظنا في ذلك اليوم على أصوات عشرات الأقدام تدبدب فوق الأرض وتهز الزنازين، وصيحات الجنود تطوف الغرف وتأتي من وراء الحُجب حيث نسمعها ولا نرى أصحابها، علمنا بوجود "قوة أمنية ضاربة" في حملة تفتيش من مصلحة السجون، أو بالأحرى حملة لتجريد السجن ومعاقبته، ومصطلح "التجريد" يعني قيام القوة الأمنية بتجريد المعتقلين حرفيًا من جميع متعلقاتهم الشخصية ليعودوا كأول يوم لهم في السجن. فقط ملابس السجن والبطاطين الميري التي تسلموها ولا شيء آخر، لا أدوات طهي ولا كتب ولا أوراق ولا أقلام ولا راديو ولا ملابس ولا بطاطين ولا أي شيء، بل في بعض الأحيان يكسّرون الحوائط بحثًا عن مخالفات مخبأة ويأخذون معهم قطعة القماش التي تُستخدم كساتر لدورة المياه ويرحلون.

السبب في هذا العقاب الجماعي وإهانة المساجين وتجريدهم من جميع المتعلقات الشخصية، هو محاولة أحد المساجين الانتحار. صنع حبلًا من البطاطين وشنق نفسه في دورة المياه داخل الزنزانة، قبل أن ينقذه زملاؤه ويسقط فاقدًا للوعي، ويحوّل إلى مشفى خارج السجن نظرًا لسوء حالته.

محاولات الانتحار تستوجب عقابًا فرديًّا لصاحب المحاولة إن فشلت، وعقابًا جماعيًّا للسجن كله، أو للعنبر الذي حدث به الواقعة على أقل تقدير. هكذا تفكّر المنظومة الأمنية في السجون المصرية

محاولات الانتحار تستوجب عقابًا فرديًّا لصاحب المحاولة إن فشلت، وعقابًا جماعيًّا للسجن كله، أو للعنبر الذي حدث به الواقعة على أقل تقدير. هكذا تفكّر المنظومة الأمنية، وكأنهم بالعقاب الجماعي يردعون الآخرين من التفكير في الخلاص من حياتهم. من يحاول الموت سيعاقب بحياة أكثر قسوة ويتحمل وزر زملائه معه.

ليست هذه الحالة الوحيدة التي عاصرتها لمحاولات الانتحار داخل السجن، فزميل آخر ضاق به الحال فشق شرايين يده. كان سعيد الحظ أو سيئه، لا أدري، لكنهم أنقذوه في النهاية ونقلوه إلى سجن آخر، في ما يُعرف بـ"التغريب". وزميل ثالث ابتلع ما لديه في الزنزانة من حبوب وأدوية، اعتراضًا على حبسه الاحتياطي المطوّل في زنزانة انفرادية، ممنوعًا من أبسط الحقوق، وهنا لا أتحدث عن محاكمة عادلة، ولكن عن السماح لأهله بزيارته حسب ما تنص لائحة السجون، أو السماح له بالتريض والخروج من الزنزانة. تمكنوا من إجراء غسيل معدة وإخراج السموم من جسده، ثم منعوا عنه جميع الأدوية. تلك المحاولات الجادة التي أذكرها والتي كان أصحابها على شفا الموت، أما المحاولات الأقل جدية أو أكثر تشبثًا بالحياة، فما أكثرها.

تسيطر على عقلي فكرة الانتحار داخل السجن هذه الأيام، استحضرها مجددًا بسبب ما يصلنا من أخبار عن محاولة جديدة للانتحار داخل السجون، الشاعر جلال البحيري، الذي كتب الأغنية الساخرة "بلحة"، حاول الانتحار في أوائل أيلول/سبتمبر الحالي، اعتراضًا على حبسه المطوّل، حُكم على البحيري في 2018 عسكريًا بثلاث سنوات، وبعد انقضاء العقوبة وجد نفسه مختفيًا قسريًا قبل أن يُحقق معه على ذمة قضية جديدة باتهامات ملفقة ومعلّبة. يتجاوز البحيري، في هذه الأيام، عامين من الحبس الاحتياطي، وهي أقصى مدة للحبس الاحتياطي حسب القانون، ويقضي عامه السادس إجمالًا داخل المعتقلات، بلا أفق لحرية مرتقبة.

فكرت كثيرًا في الانتحار في أثناء فترة الاعتقال. ما كان يثنيني عن القرار في اللحظة الأخيرة، تذكر العائلة والأصدقاء ووجوه المحبين، والعناد الشخصي باعتبار أن الانتحار استسلام وهزيمة، ولم أرغب في أن يعلن السجّان انتصاره، ولا أعلم إن استمر سجني لفترة أطول أكنت أحتفظ بعنادي أم أتخلى عنه، وإذا تعقدت أو ساءت ظروف حبسي هل سأتمسك بغريزة الحياة.. ليس لدي إجابة، فلم أختبر اللحظة. ربما على الأرجح، إن فقدت الأمل كليًا وتملك مني اليأس، سألجأ للقرار الصعب؛ إنهاء الألم المستمر. لا أحب أبدأ نصائح البُعد عن التفكير في الانتحار، لا أحب أن ينصحني بها أحد أو أن أنصح بها، يجوز لإيماني بحق الإنسان في إنهاء حياته حينما يريد، وبقدر ما هي مؤلمة هذه النظرة إلا إنها تمنحنا مؤشرًا إلى المرحلة التي أوصلونا إليها من فقدان الأمل وكره الحياة، لا أريد أن أفُجع مرة أخرى في عزيز يموت داخل جدران المعتقل.

ما يؤلمني في هذه الأخبار، ليس فقط صداقتي بجلال ومزاملتي له لقرابة العام في زنزانة واحدة، ولكن أيضًا، لأن هناك شابًا مات في السجن في أيار/ مايو 2020، كان صديقنا وشريكنا في الزنزانة نفسها، ومتهمًا في نفس القضية مع جلال البحيري. مات مخرج أغنية "بلحة" شادي حبش في سن الخامسة والعشرين، رأيته يتأوه على مدار يومين وليلة من الإهمال الطبي والاستخفاف بآلامه، وفي النهاية، حاولوا ترويج رواية أمنية بأن سبب الوفاة هو الانتحار وليس الإهمال الطبي وانعدام الضمير. أبسبب أغنية ساخرة يجب أن يموت أكثر من شاب في السجن؟