نشر هذا المقال بتاريخ 19 يوليو/تموز 2022 في موقع مجلّة إيون للأستاذ جون رابلي، وهو خبير اقتصادي وسياسي في جامعة كامبريدج،  وأستاذ بارز في معهد جوهانسبرج للدراسات المتقدمة. خضعت الترجمة لبعض التصرف، وراجعتها الزميلة آلاء حيمور من فريق التحرير. 


في إحدى أمسيات  صيف عام 2015، دخل شاب مختل إلى كنيسة للسود في تشارلستون، في ولاية كارولاينا الجنوبية؛ وبعد قضائه قرابة الساعة مع مجموعة من المصلّين، أخذ يصرخ واصفًا إياهم بـ "المغتصِبين" الذين "يسيطرون على بلادنا"، وشرع بإمطارهم بوابل من الرصاص. وعند خروجه من الكنيسة،  خلّف تسعة قتلى أبرياء، وربما كان بعضهم يصلي من أجله بصورة مأساوية. وخلال أيام ظهرت صور على شبكة الإنترنت، تعرض القاتل وهو مغطى بأعلام روديسيا ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

ومنذ فترة قريبة، في الجانب الآخر من العالم في عام 2019، ارتكب إرهابي آخر عملًا مماثلًا، إذ دخل مسجدين في منطقة كرايست تشيرتش في نيوزيلندا، وقتل كذلك أناسًا آخرين في وقت الصلاة. في ذلك الوقت، لم تكن الصور هي التي انتشرت على الإنترنت بل بيان (مانيفيستو) عُنوِنَ بخط داكن بـ"الاستبدال العظيم"، وقد استشهد في البيان بمهاجم تشارلستون باعتباره مصدر إلهام له، والذي أدان فيه "ملايين الغزاة الذين رسوا على شواطئنا، واحتلوا مدننا، ولم تصوب نحوهم طلقة واحدة". هذا القاتل بدوره سوف ينسب الفضل إليه من طرف مجرم آخر بوصفه ملهمًا له، وهو المجرم الذي قام بقتل عشرة من السود في بافالو، نيويورك في الربيع [الفائت] والذي بدوره استنكر أيضًا "التطهير العرقي الأبيض".

إذا أراد المرء تخيّل الاستعمار على أنه موجة أغرقت الشواطئ عندما انتشر الأوروبيون حول العالم، فيمكن القول أننا دخلنا الآن موجة معاكسة مع انحسار المد الاستعماري، وتراجع عدد السكان البيض في العالم.

ربما نشأ الافتتان المرضي لقاتل تشارلستون بدول بائدة قامت على التفوق العرقي الأبيض، من حقيقة كونه رأى مستقبله [في هؤلاء التفوقيين البيض]. في واقع الأمر، تحولت جميع المستعمرات الأوروبية السابقة في آسيا وأفريقيا ومنطقة الكاريبي من مستوردة للمستوطنين الأوروبيين، إلى مُصدّرة للعمال في غضون بضعة عقود. وإذا أراد المرء تخيّل الاستعمار على أنه موجة أغرقت الشواطئ عندما انتشر الأوروبيون حول العالم، فيمكن القول أننا دخلنا الآن موجة معاكسة مع انحسار المد [الاستعماري]، وتراجع عدد السكان البيض في العالم. وما وّحد هؤلاء الإرهابيين، كان مسعىً متوهمًا لدحر هذا المد [المعاكس] بطريقة ما، والحفاظ على ما تبقّى من حضارة "بيضاء" متلبسة.

تكمن المأساة بأن كل ما عليك فعله كي تظهر لهؤلاء الإرهابيين مدى ضلال معتقداتهم بأن البيض مُهَدَدون بأي شكل من الأشكال، هو أن تصطحبهم إلى زمبابوي (روديسيا سابقًا) أو جنوب أفريقيا، وأن تريهم في واقع السكان البيض هناك حاليًا، إذ لا تزال أجمل أحياء مدينة هراري مليئة بالبيض، ولا تزال قائمة المليارديرات في جنوب أفريقيا يكتسحها البيض، وقد تضخمت تحت حكم الأغلبية السوداء. ربما تكون نسبة السكان البيض قد انخفضت، ويعزى السبب الأساسي في ذلك إلى معدلات الولادة المرتفعة بين السود، ولكن رفاهية البيض لم تتأثر عمومًا إلا بالارتفاع. وكما تخبرنا الدراسات الاقتصادية المتتالية، فإن خلاصة تأثير المهاجرين على اقتصاد الدول المستقبِلة تتمثل في خلق وظائف أكثر من سلبها. إن المهاجرين في المجتمعات الغربية هم الأبطال الذين يساهمون في الحفاظ على ازدهارنا الاقتصادي وليسوا الأشرار [كما يتم تصويرهم].

ولذلك، فمن السهل جدًا انتقاد المؤمنين بالاستبدال العظيم باعتبارهم الأشقياء الحقيقيين للمجتمع [الغربي]، إذ يتم التلاعب بهم كالبيادق من قبل الجميع تقريبًا، فاليمين يغذيهم بالأكاذيب التي تخدم مصالحه، واليسار يحتقرهم بوصفهم أغبياء لتصديقهم [اليمين]، ومن ثَم ينبذهم الجميع عندما يتصرفون بناءً على هذه الأكاذيب. ومع أن المؤمنين بالاستبدال العظيم هم في الحقيقة سُذّج وحمقى وغالبًا ما يكونون مهووسين بالكامل، إلا أنهم - ونقولها على مضض - غير مخطئين تمامًا،  فقد جرى استبدالهم بالفعل.

ولكن ليس من قبل الأشخاص الذين يلومونهم، إذ إن المتحكمين الفعليين بمصائر المؤمنين بالاستبدال العظيم، والذين يدركون ما اقترفوا، يفضلون الصمت في الوقت الذي يتركون فيه ضحاياهم وهم يتخبطون بنظريات المؤامرة المجنونة، لأن ذلك يصرف الأنظار عن الجناة الحقيقيين.

تأثر إرهابي كرايست تشيرتش في صياغة لغة بيانه كثيرًا برواية لجان راسبيل بعنوان "معسكر القديسين" (1973)، التي افتتحها بالحديث عن يوم مشمس في مدينة فرنسية على البحر المتوسط، وبينما يستغرق الراوي في وصف الطبيعة الخلابة (مثل الواجهة البحرية المترفة التي تحوي على أشجار النخيل الخضراء والمنازل البيضاء الجميلة، والبحر المتلألئ تحت أشعة الشمس، والهياكل الخشبية الفاخرة لليخوت المأهولة بـ"المتزلجين ذوي العضلات المنفوخة، والفتيات بأجسادهن المسمرة بفعل أشعة الشمس)، يلمح نقطة داكنة في الأفق البعيد، وسرعان ما يملأ الأفق أسطول صغير من السفن الصدئة والمتصدعة، ينبئ وصولها برائحة المراحيض النتنة. وبلا هوادة يقترب أسطول الغوغاء من الشاطئ، ويفرغ حمولته البشرية في المدينة لتختفي بسرعة داخلها، وهكذا يبدأ الاستبدال العظيم لسكان أوروبا البيض.  

من السهل جدًا انتقاد المؤمنين بالاستبدال العظيم باعتبارهم الأشقياء الحقيقيين للمجتمع [الغربي]، إذ يتم التلاعب بهم كالبيادق من قبل الجميع تقريبًا.

هذه الصور لأناس يشاهدون الحشود الأجنبية تستولي على بلادهم، ثبت أنها تحظى بشعبية دائمة بين السياسيين والصحفيين المعادين للهجرة. سواء استحضرنا ثرثرة دونالد ترامب حول المغتصبين المكسيكيين، أو فحص نايجل فاراج للقنال الإنجليزي بحثًا عن قوارب المهاجرين، أو تحذيرات بوريس جونسون بخصوص انهيار الإمبراطورية الرومانية بسبب "الهجرة غير المنتظمة"، أو إدانة وزير الداخلية في حكومته للـ"محامين اليساريين" الذين يساعدون مَن يعبر القنال من طالبي اللجوء، تبرز باستمرار صور جيوش من المهاجرين المتسخين والظلاميين وهم يهزمون الغرب الذي تأبى مبادئه أن يتحرك ضدهم. وقد أججت أحاديث "الاستبدال العظيم" خطابات فيكتور أوربان وماتيو سالفيني، ولعبت دورًا بارزًا في حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية الخاصة بإريك زمور.

يبدو من الطبيعي أن خطابات الاستبدال العظيم البلاغية انتشرت كثيرًا في فرنسا نظرًا لولادة المفهوم فيها، فقد ورد مصطلح "الاستبدال العظيم" في كتاب رينو كامو (2011) بنفس التسمية، والذي بدوره عزا الفضل لراسبيل لإلهامه. كما أنه نسب الفضل إلى أحد أبطال فاراج، وهو السياسي البريطاني إينوك باول، الذي تنبأ في خطابه المشين عام 1968، بـ"أنهار من الدم" سوف تغرق إنجلترا بمجرد امتلاك المهاجرين السود لليد العليا ضد البيض المولودين في البلاد.

ومع ذلك، فإن فكرة الغزوات المدمرة للحضارة أقدم من ذلك بكثير، إلى حد يمكن فيه للمرء أن يجادل بأنها منسوجة ضمن أسطورة خلق العالم الغربي. ففي عام 1764، جلس إدوارد غيبون، على أنقاض روما، وتأمل في أفول ما كان يعتقده معظم قاطني بريطانيا العظمى المتعلمين في ذلك الوقت، على أنه علامة فارقة في تاريخ البشرية، وهي: الإمبراطورية الرومانية. شرع غيبون، مدفوعًا بوحي تأملاته، بكتابته لعمله الضخم بعنوان "تاريخ تراجع الإمبراطورية الرومانية بين أعوام (1776-1788) وأفولها"، حيث ألقى باللوم على الانحلال الروحي الذي أصاب قلب الإمبراطورية، بسبب غياب الإرادة لمقاومة الغزاة البرابرة، أو كما صاغها أرنولد توينبي لاحقًا، أن الحضارات لا تموت بالقتل بل بالانتحار (إذ لم يكن الكتاب المعنون بـ"الانتحار الفرنسي" لـ[إريك] زمور عام 2014 مصادفة).

نسبة البيض من أصول أوروبية من السكان على صعيد العالم وفي بلدانهم في تناقص، ويساعد عدد المهاجرين من البلدان النامية بتعويض هذا التناقص، وفي الوقت ذاته يزداد وضع الطبقة العاملة التقليدية سوءًا، وهكذا يبدو أن هنالك رابطًا واضحًا جدًا لدى الكثير من الأشخاص.

وعلى الرغم من أن مؤرخين معاصرين تفوقوا على غيبون إلى حد ما، إلا أن ازدواجيته المانوية لا تزال تغري الدراسين المعتبرين. وعندما شنّ إرهابيون إسلاميون سلسلة من الهجمات في فرنسا عام 2015، كتب المؤرخ نيال فيرغسون افتتاحية صحيفة بوسطن جلوب تحت عنوان " باريس وسقوط روما"، مدعيًّا أن كتابات غيبون حول سلب القوطيون روما، تنبأ بدقة بأفول الغرب الحديث. وأعرب فيرجسون عن أسفه لما [آلت إليه] مجتمعات[الغرب] من "النمو المتفسخ لمتاجر التسوق والملاعب الرياضية"، في حين تُفتح البوابات للغرباء الذين "طمعوا في ثروات الغرب دون التخلي عن معتقدات أسلافهم"، [إذ يعبّر ذلك] عن نسخة رفيعة من الاستبدال العظيم.

وخلافًا لمعظم نظريات المؤامرة، فإن هذه [النظرية] تستند إلى أساس في الواقع، ذلك أن نسبة البيض من أصول أوروبية من السكان على صعيد العالم وفي بلدانهم في تناقص. ويساعد عدد المهاجرين من البلدان النامية بتعويض هذا [التناقص]. في الوقت ذاته يزداد وضع الطبقة العاملة التقليدية سوءًا، وهكذا يبدو أن هنالك رابطًا واضحًا جدًا لدى الكثير من الأشخاص.

لكن الحقائق، كما صرح بها رونالد ريغان ذات مرة دون قصد،  قد تكون أشياء غبية ولا تعني شيئًا إذا ما كانت خارج سردية ما. لذلك، دعونا نبدأ بوضع الحقائق ضمن سياقها التاريخي.

أنجز العالم الغربي تحولاته  [الحضارية] عن طريق الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، واختلفت بداية هذه التحولات الزمنية من دولة لآخرى، فقد أنجز هذا [التحول] على نحو كبير في بريطانيا في الوقت الذي كانت تبدأ فيه الولايات المتحدة محاولاتها الجادة بعد الحرب الأهلية. وبحلول عام 1900، كانت كافة المجتمعات الغربية قد سارت على ذات النهج لتصبح مجتمعات حضرية إلى حد كبير، إذ باتت إنتاجيتها بشكل أساسي، تقع خارج نطاق القواعد الاقتصادية التقليدية للإنتاج البدائي. إذ مكّنت التحسينات في تقنيات الزراعة السكان، ودفعت العديد منهم للهجرة إلى المدن، إضافة إلى رفع كفاءة القطاع الزراعي. وبينما انطوت عملية التمدن والعمل في المصانع على مشقات كبيرة، فإن زيادة الإنتاج الزراعي أدت إلى تحسين التغذية لدى معظم السكان، وارتفع متوسط المقدار المستهلك من السعرات الحرارية [للسكان] بمقدار الثلث على مدار القرن. يضاف إلى ذلك، التطور في التقنيات الطبية التي حتّمتها ظروف المدن المزدحمة والموبوءة بالأمراض الجديدة. وأدى انتشار التطعيم والتحسينات في قطاع الصرف الصحي العام على وجه الخصوص، إلى رفع متوسط العمر المتوقع في الغرب، وأدى إلى انخفاض معدل وفيات الرضع بعد حوالي عام 1870.

لقد كان الوجود الظاهر للبيض في كل مكان خلال القرن العشرين، نوعًا من الاستثناء، فقد كانت الاستثنائية مؤقتة ومجرد مسألة وقت قبل أن يستعيد التوازن التاريخي نفسه.

ومع ذلك، بينما كان ينجو المزيد من الأطفال، استغرق متوسط حجم الأسر عدة أجيال للتكيف مع انخفاض [وفيات الرضع]، ونتيجة لذلك، قفزت نسبة أوروبا من سكان الأرض بشدة بين الأعوام 1850-1950 من معدلها التاريخي الذي كان يقدر بحوالي 15 بالمئة، إلى 25 بالمئة عشية الحرب العالمية الأولى[1914]. علاوة على ذلك، فقد انخفضت بشدة الحاجة إلى العمالة الزراعية منذ حصول التغيرات على القطاع الزراعي التي ساعدت بأن يصبح ذلك ممكنًا، إذ كانت هنالك حاجة أقل إلى العمال. ومع استمرار استخدام أنماط الزراعة التقليدية في المزارع الجديدة الكبيرة، كما هو الحال في جنوب أوروبا، فقد نما متوسط حجم المزراع بثبات أقل، وأخذت الأراضي تقسّم بشكل أكبر مع مرور كل جيل. وبذلك، لم يستطع العديد ممن بقي في أرضه أن يعتاش عليها. 

بعد مرور نحو قرن من عام 1850، كانت أوروبا تنتج فائضًا ضخمًا من العمالة، وحدث ذلك بالطبع في أوج العصر الإمبريالي الأوروبي. وبحلول العقود الأولى من القرن العشرين، كان نصف الكوكب تحت حكم  الإمبراطوريات الأوروبية أو مستعمراتها السابقة مثل الولايات المتحدة وكندا. وقد كانت هذه المستعمرات والمستعمرات السابقة متلهفة لاستغلال الأراضي والموارد التي سيطرت عليها، وبالتالي أصبحت تجذب المهاجرين الأوروبيين.

ببساطة، كان الوجود الظاهر للبيض في كل مكان خلال القرن العشرين، نوعًا من الاستثناء، فقد كانت [الاستثنائية] مؤقتة ومجرد مسألة وقت قبل أن يستعيد التوازن التاريخي نفسه. ففي السنوات الأولى من القرن العشرين، وفي الوقت المناسب، بدأت معدلات الولادة في المجتمعات الغربية بالهبوط، وهي موجة قطعتها، لكن لم تعكسها، طفرة المواليد في فترة ما بعد الحرب. حدث ذلك في نفس الفترة التي تفككت فيها الإمبراطوريات الأوروبية، وازدادت أعداد الدول المستقلة في الأمم المتحدة بما يقارب الضعف، [إذ زادت] من 51 [دولة] في السنوات الخمسة عشر بعد الحرب العالمية الثانية، لتضاف لها أكثر من 51 [دولة] خلال السنوات العشرين اللاحقة.

كان على رأس قائمة أولويات الحكومات الجديدة توزيع فوائد التنمية على شعوبها، إذ شهدت مرحلة ما بعد الاستقلال توسعًا سريعًا في التعليم العام والرعاية الصحية في الكثير من دول العالم النامي، ونظرًا لاستخدامهم التقنيات الموجودة سلفًا بدلًا من بنائها تدريجيًا، مثلما فعلت الدول الغربية في وقت سابق، فإن التأثير كان أسرع وتيرة. إذ إنه بدلًا من أن يستغرق الأمر قرنًا ونصف القرن لتخفيض معدل وفيات الرضع من 1لكل ثلاثة مواليد إلى  واحد لكل 20، كما حدث في المملكة المتحدة، احتاجت ماليزيا بعد ذلك بمئة عام إلى فترة امتدت عمر جيل واحد أو أكثر قليلًا. فخلاصة القول أنه في النصف اللاحق من القرن العشرين، اختبر العالم النامي طفرة سكانية شبيهة بالتي حدثت في الغرب قبل قرن، ولكن خلال وقت أقصر بكثير. فبينما تضاعف عدد سكان أوروبا في القرن الذي تلا عام 1850 مرة واحدة، تضاعف عدد سكان أفريقيا ثلاث مرات، خلال نصف المدة الزمنية بعد عام 1950.

وهكذا، فإن الاستبدال العظيم هو مجرد حسابات معكوسة، إذ إن نسبة البيض من سكان الكوكب عادت أدراجها كما كانت [قبل الزيادة]، وبوجود أكبر للسكان غير البيض في المجتمعات الغربية عما كان عليه من قبل، فإنه هنالك أيضًا العديد من السكان البيض فيما اعتبرت تاريخيًا أراضٍ غير بيضاء، كالأمريكيتين وغيرهما من الأماكن، فيكون ذلك بمثابة إعادة توزيع، وليس استبدالًا.

أما فيما يخص تشبيه الهجرة المعاصرة إلى المجتمعات الغربية بالغزوات البربرية، كما فعل الشعبويون اليمينيون، فلنكن واقعيين، إذ كانت الدول الناشئة خارج حدود الإمبراطورية الرومانية هي التي تتحكم بالهجرة إلى الإمبراطورية ، (وكانت الإمبراطورية الرومانية غالبًا ما تتفاوض على هذه الإغارات). أما الهجرة إلى الغرب الحديث فتتحكم به كليًا الدول [الغربية] المستقبلة للهجرة، وما ينتج عن ذلك من هجرة غير شرعية، يشكل حصة ضئيلة من إجمالي [السكان]، وبينما استنفذ البرابرة أرصدة رأس المال من الإمبراطورية، فإن المهاجرين اليوم يبنون أرصدة رأس المال من خلال انضمامهم إلى القوى العاملة بمعدل أعلى من السكان المولودين في البلاد. وفي حين أن البرابرة أخلوا بالنظام في الإمبراطورية، فإن المهاجرين اليوم أقل تهديدًا للنظام من السكان المولودين في البلاد، فعلى سبيل المثال أصبح الإرهاب الإسلاموي أقل تهديدًا بكثير من الإرهاب المحلي وغالبًا ما يكون [هذا الإرهاب]، من اليمين المتطرف .

يبلغ عدد المهاجرين من كافة الدول إلى الغرب الحديث ما يزيد قليلًا عن 100 مليون إنسان، مما يجعل الهجرات الداخلية أكبر بعشرين ضعفًا من حركة الأشخاص من المناطق الطرفية السابقة، إلى قلب الاقتصاد العالمي.

حسنًا، وماذا بعد؟ لن ينهي موقع تحقق آخر مصائب إرهاب التفوق العرقي الأبيض. وذلك لأن الحقائق أيضًا أشياء مستعصية، كما قال الرئيس الأمريكي الثاني جون آدامز(والتي سيخطئ لاحقًا ريغان في اقتباسها). فسردية الإبادة الجماعية للبيض هي خاطئة تمامًا وبالأدلة، إلا أن الحقائق تبقى واضحة بأن الهجرات العالمية أثرت بعمق على المجتمعات الغربية بطرق أدت إلى تفاقم وضع الكثير من الطبقة العاملة البيضاء التقليدية، وأدت أيضًا إلى إغراقها في أزمات وجودية، كما سببت وقوع البعض فريسة للتفكير المؤامراتي العنيف.

ومع ذلك، فقد ركزوا اهتمامهم كله على الهجرات الخاطئة.

عندما تفككت إمبراطوريات أوروبا بعد الحرب، كانت أغلب الحكومات التي تولت السلطة في الدول الناشئة، تبدو كجزر من الحداثة الحضرية في بحر من الفقر الريفي، ولحرصها على اللحاق بركب الغرب بسرعة، فقد عملت بشكل عام على تطبيق سياسات التنمية التي تركز على المناطق الحضرية، والتي سعت لاستغلال سلطة الدولة من أجل تسريع ثورتهم الصناعية الخاصة. ومن أجل خلق الموارد اللازمة لمثل هذه البرامج الاستثمارية الطموحة، كانوا يعمدون في العادة إلى فرض الضرائب على القطاعات الأولية الأساسية، حيث كان يعمل معظم الناس. عنى هذا "التحيز الحضري" أن أفضل الوظائف والمدراس وأماكن الترفيه ستكون في المدن. ونتيجة لذلك، فإن هجرات مشابهة لتلك التي رافقت الثورة الصناعية في الغرب، تكررت عبر معظم بقاع العالم، وإن كان في فترة زمنية أقل [عما حصل في أوروبا].

منذ عام 1960، في الوقت الذي زاد فيه عدد سكان العالم بأكثر من الضعف، وحدثت تسعة أعشار هذه الزيادة في الدول النامية، تضاعفت كذلك نسبة التحضر عند سكان العالم النامي. وباختصار، ففي غضون بضعة عقود، انتقل نحو ملياري شخص من الريف إلى الحواضر الساحلية والنهرية في المناطق الطرفية السابقة للعالم الغربي. وهي عملية لم تختلف عن الثورة الصناعية للغرب الحديث، لكنها كانت أوسع نطاقًا. ولوضع ذلك في سياقه، يبلغ عدد المهاجرين من كافة الدول إلى الغرب الحديث ما يزيد قليلًا عن 100 مليون [إنسان]، مما يجعل الهجرات الداخلية أكبر بعشرين ضعفًا من حركة الأشخاص من المناطق الطرفية السابقة، إلى قلب الاقتصاد العالمي.

زكي وزكية الصناعي

بكل بساطة، هذه هي أكبر حركة سكانية شهدها الكوكب على الإطلاق، وهجرة الشعوب (Völkerwanderung) التي جعلت حركة الأشخاص بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، تبدو وكأنها نزهة قصيرة. لقد بدأنا للتو بفهم تأثيراتها الهائلة على البيئة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والنظم البيئية المختلفة، فبادئ ذي بدء، ربما لم تكن لجائحة كوفيد – 19 بأن تحدث على الكوكب في زمن أسلافنا، إذ حُفزت بفعل التوجه إلى أراضي الغابات التابعة للمزارع الصناعية اللازمة لتزويد المدن الجديدة في العالم النامي بالطعام، ومن ثم انتشرت على طول خطوط التجارة والهجرة العالميتين اللتين جعلهما التحضر ممكنتين. ولكن حركة [الهجرة] هذه أوجدت أيضًا بحرًا من العمالة الرخيصة المتجمعة في مدن تقع على خطوط النقل التي تربط المناطق التي كانت طرفية في السابق بالاقتصاد العالمي.

إن الاستبدال العظيم الحقيقي في عصرنا الحالي، هو الإحلال التاريخي للتكنولوجيا بدلًا من البشر في المزارع التي كانت ذات يوم تشكل محيط الإمبراطوريات الغربية، والذي حول قوة العمل الريفية إلى قوة اقتصادية حضرية، وبالتالي حصول الزيادة المهولة للطلب العالمي على العمالة.

خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، بدأ النمو الانتاجي في المجتمعات الغربية يتباطأ، جاذبًا معه معدلات النمو الاقتصادي إلى الأسفل. وعلى عكس اختراعات العصر الصناعي كالمحرك البخاري والكهرباء، لم تحدث التقنيات الجديدة ثورة في الانتاج. وفي خضم التضخم الراكد الذي نتج في السبعينيات من القرن العشرين، أصبح جيل من الغربيين الذين نشأوا معتادين على التقدم اللامحدود في فترة ما بعد الحرب على معدلات النمو العالية، مضطربًا سياسيًا.

ولكن إذا كانت التقنيات الجديدة لم ترفع إنتاجية العمال الغربيين بالطريقة التي كانت تفعلها سابقًا، فإن نفس التقنيات التي كانت مطبقة بعيدًا عن التكنولوجيا الحديثة، يمكن أن تظل ثورية، إذ إن مناطق العالم النامي التي احتوت على احتياطي عمالي كبير أصبحت محط جذب، ومن خلال تحويل الصناعات كثيفة العمالة إلى مناطق ذات دخل منخفض، تمكنت الشركات الغربية من زيادة أرباحها وأسعار أسهمها. ومن ثم فقد ترتبت على "تأثيرالثروة" زيادة في الإنفاق في المجتمعات الغربية، بينما تسبب فيض الواردات الرخيصة الذي قلص من معدلات التضخم ومعدلات الفائدة، في إحداث زيادة مطولة في أسواق الأسهم، وهكذا عادت الأيام الهانئة.  

إن الاستبدال العظيم الحقيقي في عصرنا الحالي، هو الإحلال التاريخي للتكنولوجيا بدلًا من البشر في المزارع التي كانت ذات يوم تشكل محيط الإمبراطوريات الغربية، والذي حول قوة العمل الريفية إلى قوة اقتصادية حضرية، وبالتالي حصول الزيادة المهولة للطلب العالمي على العمالة.

في النهاية، أدى هذا إلى خفض أجور العمال الصناعيين ذوي الأجور الأعلى في العالم الموجودين في البلدان الغربية (وإن كان ذلك قد رفع من أجور العمال في البلدان التي تستخدم مصادرها الداخلية). وبينما رغب بعض السياسيين الغربيين بكبح هذه العملية عن طريق خفض نسبة التجارة مع القوى الصاعدة في العالم النامي و'حماية الوظائف '، وهو الهدف الذي يتشاركه الرئيس الأمريكي جو بايدن مثلًا مع سلفه [ترامب]، فإن إجراء كهذا سيؤدي إلى تعزيز تباطؤ النمو في الغرب، ولن يساهم كثيرًا في الحد من عدم المساواة (وأي شخص يشكك في ذلك عليه النظر في التجربة الحية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأثرها في الحد من الانفتاح الاقتصادي، وهو ما ينتج حاليًا انفجارًا داخليًا مؤثرًا ومؤلمًا).

يمكن القول إن مصير الاقتصادات الإمبريالية في نهاية الأمر هو الاندماج باقتصاداتها الطرفية السابقة.

يمكن القول إن مصير الاقتصادات الإمبريالية في نهاية الأمر هو الاندماج بـ[اقتصاداتها] الطرفية السابقة. وباستخدام مصطلحات اقتصادية صرفة، فإن عوامل الإنتاج تستدل على بعضها البعض، إذ إن رأس المال يسعى وراء التشغيل. وبهذه الطريقة فإن الفارق الأساسي بين سقوط الإمبراطورية الرومانية والتدهور الاقتصادي النسبي للغرب الحديث يتمثل في أن رأس المال في الإمبراطورية الرومانية لم يكن متحركًا بينما كان العمل كذلك، ومن ثم فلا يمكن الاستيلاء على الأرض أو الماء وإعادته إلى الوطن، وهو ما دفع العمال للانتقال. أما اليوم فعلى النقيض من ذلك، فإن رأس المال متحرك ويمكنه الذهاب حيثما يوجد العمال.

ومع ذلك، لم يكن ثمة ما يمنع الحكومات الغربية من فرض الضرائب على العوائد المتزايدة من التعهد لطرف خارجي، وإعادة توزيعها بطرق يستفيد منها المجتمع. لقد كان بإمكان الحكومات دعم العمال بسخاء أثناء إعادة تدريبهم على وظائف جديدة، ووضع حد أدنى للأجور ومعايير لائقة للعمل كي يحافظ العمال على مستوى معيشي لائق عند انتقالهم من الاقتصاد الصناعي القديم إلى قطاع الخدمات، وإلى نظام رعاية صحية أفضل، ونقابات عمالية مدعومة، كما كان بإمكانها خلق نظم رفاه اجتماعية فاعلة لدعم من سقطوا في فجوات [النظام الاقتصادي القائم]، واتخاذ غير ذلك من الاجراءات.

لم يكن ثمة ما يمنع الحكومات الغربية من فرض الضرائب على العوائد المتزايدة من التعهد لطرف خارجي، وإعادة توزيعها بطرق يستفيد منها المجتمع، لكنها لجأت عوضًا عن ذلك إلى النقيض، فوسعت نطاق النيوليبرالية ليتعدى المناحي التجارية.

عوضًا عن تلك الاجراءات، لجأت الحكومات إلى نقيض ذلك، إذ إنها تحت ذريعة العولمة، التي شبهها بيل كلينتون بـ"قوة الطبيعة" التي لا تترك خيارًا للمرء سوى الاستسلام لها، وسّعت الحكومات الغربية من نطاق النيوليبرالية التي كان وجودها في ميدان التجارة صالحًا، وصولًا إلى كافة مناحي السياسات الداخلية. وقد تسببت بحدوث أضرار وخيمة، فخفضت الحكومات الضرائب على الأغنياء، وقلّلت من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية وإعانات البطالة، وأضعفت النقابات، وخلخلت نظم الحماية العمالية وقلّصت عملية إنفاذه، وشنت حربًا شاملة على الطبقة العاملة بطرائق عديدة. فالعمال الغربيون لم يُستبدلوا من قبل المهاجرين، بل بالأحرى قُمعوا من قبل حكوماتهم.

وهكذا، إذا كان ثمة برابرة يقوضون الحضارة الغربية اليوم، فإنهم ليسوا أفراد الطبقة البيضاء العاملة الذين يقودون سياراتهم التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود للمشاركة في مسيرات ترامب، بل هي الطبقات المتوسطة والعليا من البيض التي تسعى إلى رفع قيمة مَحافظ الأصول الخاصة بها.

ولا يسع المرء إلا أن يعتقد بأن مؤامرة "الاستبدال العظيم"، أصبحت بمثابة ورقة رابحة لكل من اليمين واليسار، فالنخب اليمينية تستطيع مخاطبة العمال بأن المهاجرين أخذوا وظائفهم، والنخب اليسارية تستطيع مخاطبة العمال عن مدى حمقهم لتصديقهم مثل هذا الهراء اليميني، وتستشهد بذات الغباء كتفسير لمصيرهم المؤسف.

قال بيل كلينتون في عام 1992، " ما تكسبه يعتمد على ما يمكنك تعلمه"، في إشارة إلى الفرص التي تنتظر العاطلين عن العمل، فقط إذا ما ترجلوا وتعلموا مهارات جديدة كالبرمجة، التي من المفترض أنها مهارة شاعت في الاقتصادات الجديدة.

إذا كان ثمة برابرة يقوضون الحضارة الغربية اليوم، فإنهم ليسوا أفراد الطبقة البيضاء العاملة الذين يقودون سياراتهم التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود للمشاركة في مسيرات ترامب، بل هي الطبقات المتوسطة والعليا من البيض التي تسعى إلى رفع قيمة مَحافظ الأصول الخاصة بها.

إن السردية التي يسمعها المرء كثيرًا في أوساط النخب الليبرالية البيضاء هي أن العمال الذين تم التخلي عنهم مسؤولون عن مصائرهم، وأنهم أغبياء جدًا لدرجة منعتهم من التكيف مع الاقتصاد الجديد، وكسالى جدًا لفعل أي شيء آخر عدا عن لومهم الأبرياء على مصيرهم، وأنهم مفيدون فقط في تأديتهم دور الأضحوكة في الوثائقيات الساخرة لساشا بارون كوهين.

 لقد استُبدِل العمال من قبل أبناء جلدتهم الذين لن يتحملوا مسؤولية فعلتهم. غير أن أحد الأمور القليلة التي تتفق عليها كل من نخب اليمين واليسار، هو أن العمال هم المذنبون في مسألة تدهور الطبقة العاملة في الغرب، سواء كانوا عمالًا مهاجرين يسرقون الوظائف أو عمالًا محليين لم يتكبدوا عناء اغتنام الفرص الجديدة. وفي عملية تكرار مأساوي للتاريخ، يلقي الضحايا اللوم على الأطراف الأقرب إليهم، أي على الجماعات المضطَهَدة. بينما يستمتع المسؤولون عما آلت إليه أوضاع العمال بالمزيد من التخفيضات الضريبة.