15-يونيو-2017

لا يمكن أن تخضع مسألة الإفطار في نهار رمضان إلا للمنطق الديني في إطار العلاقة بين العبد وربه (ديفيد باثغات/Getty)

في كل موسم رمضاني يعود الحديث حول مدى شرعية تجريم المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان، وهي مسألة لازالت محلّ جدل في مجتمعاتنا العربية. وقبل أيام، أصدرت محكمة الناحية في بنزرت التونسية، حكمًا يقضي بسجن 4 شبان بتهمة "المجاهرة بالفحش"، وذلك في ظل غياب نص جزائي يجرّم صراحةً المجاهرة في الإفطار، على خلاف العديد من القوانين العربية.

وظل السؤال هو: هل يتطابق مفهوم المجاهرة بالفحش تكييفًا مع المجاهرة بالإفطار؟ وهل يجوز أصلًا للمجموعة أن تصادر حق شخص في عدم الصيام أي في عدم ممارسة سلوك ديني، أم أن للمجتمع نواميسه بما يفترض على الفرد التقيد بها؟

بحكم طبيعتها، لا يمكن أن تخضع مسألة الإفطار في نهار رمضان إلا للمنطق الديني، أي ضمن العلاقة بين العبد وربه

لعلّه من المهمّ التأكيد بصفة أوليّة، على أن ممارسة العبادات تخضع للحرية الفردية للشخص، وهي حرية أصيلة، إذ تنضوي ممارسة العبادات من عدمها في إطار حرية أعمّ هي حرية المعتقد، وهي حريّة قبل أن تتبناها الدساتير العصرية فقط، فهي مؤسسة في المدوّنة الدينية.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة المجاهرين بالإفطار في مصر بين المفتي والقانون

ولا يمكن أن تخضع مسألة الإفطار في نهار رمضان بحكم طبيعتها إلا للمنطق الديني، أي ضمن العلاقة بين الله والعبد، فالحديث عن الفرض والإثم وكيفية تداركه في الدنيا من صيام مدة معينة وكفاءة، والحديث عن الجزاء والعقاب في الآخرة، هو الدائرة الوحيدة الممكنة للحديث عن مسألة الإفطار في نهار رمضان، وهي دائرة لا يجوز للمجتمع والدولة التدخل فيها. وعليه من زاوية دينية، نقول: فلتكن المسألة بين الفرد وربّه، ومن زاوية مدنية نقول: فلتكن المسألة داخل إطار الحرية الفردية.

هذا التأكيد، وعلى بداهته لدى العديد، فهو لازال محلّ تشكيك من مجموعات جعلت نفسها وكيلًا لله على الأرض، وتعتبر أن المفطر في نهار رمضان بغير عذر هو آثم يجب على الدولة ردعه، وهو استدعاء ترهيب لفرض سلوك ديني على الفرد، وهو ما يتعارض مع الممارسة الدينية بطبعها بما هي ممارسة إرادية منطلقها ضمير الفرد لا سطوة المجتمع أو ترهيب الدولة.

بيد أن المسألة التي تبدو الأكثر جدالًا من حيث اختلاف المواقف منها، هي "المجاهرة بالإفطار"، وتحديدًا بخصوص المفطرين بغير عذر. ومردّ الجدل حقيقة هو تداخل عديد المركبات وتزاحمها، فمن جهة أولى الإفطار هو حق للفرد، ومن جهة ثانية فإن الصيام في نهار رمضان هو طقس مجتمعي يمثل تجاوزه خرقًا للضمير الجمعي الناظم للحياة العامّة.

وسارعت عديد القوانين العربية لتجريم المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان، وتباينت شدتها بين التجريم المطلق على غرار السعودية والتجريم المشروط على غرار عديد البلدان، مثل اشتراط الإفطار بالنسبة للمسلم وبغير عذر، فيما فضّلت قوانين عدم التجريم الصريح، وهو ما لم يمنع من تكييف المجاهرة بالافطار كجريمة اعتداء على الأخلاق الحميدة، أو على الحياء والآداب العامة أو بمثابة مجاهرة بالفحش كما ذهبت المحكمة التونسية المذكورة.

إن المجاهرة بالإفطار هي بصفة أولية ممارسة لفعل طبيعي مشروع، وهو الأكل في الفضاء العام، غير أن هذا الفعل الطبيعي يعارضه فرض ديني ومنه مجتمعي، يكون فيه الامتناع عن الأكل في نهار رمضان هو الأصل وليس الاستثناء.

إلا أن القول بأن المجاهرة بالافطار يمثل اعتداء على النظام العام المجتمعي، وبالتالي يُوجب العقاب عليه، قد يكون في غير مرماه بصفة مبدئية، ولكن في المقابل، يأتي القول بأن خرق ضوابط مجتمع ما هي تجاوز من الفرد لمنطق الموائمة بين حقوقه وحرياته من جهة ونواميس الحياة المجتمعية من جهة أخرى، ومن هذا المنطلق، فالمجاهرة بالافطار قد تمثل بالنسبة للمجتمع وغالبيته من الصائمين، بمثابة اعتداء على الحياء العامّ. ولعل المسألة الأعقد إذا كان المجاهر يقصد إعلان عدم صيامه بشكل استفزازي أم لا.

إن المسألة بالنهاية هي محل مزاحمة بين الفرد والمجتمع، وبتقديري فالغلبة يجب أن تكون في هذا الجانب للفرد ولكن دون اقصاء مطلق لمنطق الحياة المجتمعية.

عمليًا، يمكن للدولة أن تفرض نظامًا خصوصيًا على المطاعم والمقاهي في نهار رمضان، تماشيًا مع خصوصية الشهر الكريم، ولكن لا يجب أن تعاقب المجاهرين بالإفطار بصفة مبدئية، أي أنه يمكن إعطاء تعليمات لأعوان الشرطة بعدم تتبع المجاهرين بالافطار، ولو على فرض وجود نص جزائي صريح يجرّم فعل المجاهرة أو نص آخر قابل للتكييف معها.

من المهم أن يكون هناك حوار حول كيفية التعامل مع مسألة المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان، وبهدوء وبعيدًا عن التعصب

وقد يبدو هذا الحديث حاملًا لبعض التعارض من حيث إعطاء تعليمات بعدم التتبع رغم وجود قانون مجرّم، وهو ما يستدعي القول بأن بعض المسائل تفرض هذه الخصوصية في التعامل، فالحديث عن الحسم بالقانون غير محبذ إن لم يكن ممكنًا أساسًا، إلا أنّه يمكن في ظل ذلك معاقبة المجاهرين إن كان فعل المجاهرة يستقصد استفزاز المواطنين، بما يعرض الأمن العام للخطر. في النهاية، المعالجة القانونية للمسألة لا يجب أن تكون رادعة وحاسمة، بل يجب أن تكون مرنة للغاية.

اقرأ/ي أيضًا: جدل الإفطار العلني في مرضان بالمغرب

ومن المهمّ عمومًا أن يكون هناك حوار حول كيفية التعاطي مع مسألة المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان وبهدوء وبعيدًا عن التشنج ومنطق التجاذبات والاتهامات المُبطنة، وذلك في إطار الحوار المواطني المجتمعي بعيدًا عن الإطار القانوني الردعي.

في الأثناء، يقول أحدهم لو فعل المجاهرة بالافطار في نهار رمضان يمثل فعلًا فاحشًا، ألا يمثل الإفطار في الأيام العادية أمام فقير لا يجد قوت خبزه فعلًا فاحشًا كذلك؟!

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الإجهار بالإفطار".. تهمة جديدة تؤدي في بغداد تؤدي إلى السجن

لماذا يكره فلان شهر رمضان؟