21-أغسطس-2023
يكشف السر عن بنية الاختفاء (الترا صوت)

يكشف السر عن بنية الاختفاء (الترا صوت)

يتعذر علينا أن نتصور كنزًا غير مخفي، كنزًا مكشوفًا ظاهرًا للعيان. الكنز دائمًا شيء "يُكتشف". كأن قيمة الكنز في اختفائه وليس في المادة التي يتكون منها. الإخفاء إثراء. لا يهدف الإخفاء، أو الاكتناز، بطبيعة الحال إلى ضياع الكنز وإتلافه. وإنما من أجل أن يُعثر عليه، من أجل أن يكتشف. إلا أنه سيكتشف كـ"كنز مخفي"، كشيء ثمين.

لا يبتعد الكنز في ذلك عن بنية كل ما يُخْفى، ويعامل كسر. فبنية الكنز هي بنية السر. السرّ أيضًا يتميز، في الوقت ذاته، بقدرته على الحفاظ على عدم المعرفة، لكنه يرعى معرفة هذه اللامعرفة. لذا فهو من الأضداد. نقرأ في اللسان في باب السرّ: "أسرّ الشيء: كتمه وأظهره. سررته: كتمته، وسررته: أعلنته". السر أيضًا لا يستهدف الإتلاف، فهو لا بد وأن يعرف، لكنه لا يعرف إلا كسر، أي أنه يعرف كشيء لا يعرف. ليس السر لغزًا يتشبث بتواريه الدائم، بل إن اختفاءه هو ظهوره، ولكن ظهوره كاختفاء.

لا يبتعد الكنز في ذلك عن بنية كل ما يُخْفى، ويعامل كسر. فبنية الكنز هي بنية السر. السرّ أيضًا يتميز، في الوقت ذاته، بقدرته على الحفاظ على عدم المعرفة، لكنه يرعى معرفة هذه اللامعرفة

يحيل اللفظ الفرنسي secret في اشتقاقه اللاتيني إلى معنى الفصل والتمييز. وهكذا يعني الفعل sacer صان وعزل وكتم وفصل. معنى الفصل يشير إلى الفجوة التي ما يفتأ السرّ يحفظها بين التستر والانكشاف، تلك الفجوة التي تجعله على الدّوام في ملتقى الظهور والخفاء. ولولا هذا اللقاء لما بَعَث الانكشاف ولا التستر فضولَ المتطلعين إلى البحث عن الكنوز ومعرفة الأسرار. وقد سبق لـ لاَكَانْ أن بيَّن أن الإخفاء الكليّ أو الكشف التامّ يقتل الرغبة التي لا تتغذى إلا على المسافة بين التستّر والعراء، إنها "لا تتغذى إلا على الفجوة بين الإخفاء والانكشاف". يتساءل رولان بارث: "أليست أكثر مناطق الجسد شبقية هي تلك التي ينفرج عندها اللباس؟ فما يغري، وما يفتن هو الوميض المتلألئ، أو لنقل بصيغة أخرى إنه النقطة التي تتم عندها مسْرَحَة ظهور مُتخَفٍّ واختفاءٍ ظاهر". ذلك أن اللباس يُظهر عندما يُخفي، وعندما يستر جوانب فإبرازًا لأخرى. فالستر غالبًا ما يقترن بالكشف، والحشمة بالإثارة، وغالبًا ما يهدف التستر إلى إبراز مفاتن الجسد بكيفية غير مباشرة. كأن الجسد العاري، مثل "الكنز الظاهر"، لا قيمة له.

هنا يغدو السّتار أداة هذه "المسرحة". إلا أننا لا ينبغي أن نعتبره، على غرار ما كرسته ميتافيزيقا التستر، مجرد "أداة". ذلك أن هذه الميتافيزيقا طالما نظرت إلى السّتار الذي يُسدل دون السرّ، على أنه لا يشكل جزءا من بنية السرّ، وإنما ينضاف إليه باعتباره مجرد قشرة تخفي اللبّ. إذ إن قيمة الستار لم تكن لتكمن فيه، وإنّما في ما يستره. فما كان ينكتم ليس مفعول الستار. اعتُبر أن الستار لا وظيفة له، اللهم صون الجوهر و"حفظ" السرّ الذي ينكشف بـ"إزاحة" الستار وإماطة اللثام. والحال أن الستار، ليس غطاء يوضع "فوق" ما يستره، بل هو انثناء ما يظهر. إنه فعل الطيّ ذاته. أو لنقل إن السطح هو الستار. يؤكد صاحب "العلم المرح": "إذا كان هناك قناع، فلا شيء من ورائه. إنه سطح لا يخفي شيئا سوى ذاته". هنا يستعيد السطح كل ثرائه، ويغدو الوجود "صفات ظاهره"، وتصبح الأعماق مفاعيل للسطوح، وبالضبط مفعول طيّها وانثنائها. إنها ما يتولد عن الاستيهام الذي يبعثه فينا الظاهر الذي يمنعنا من أن ننظر إليه كظاهر.

حينما ينكشف السرّ ويفتضح أمره والحالة هذه، فإنه لا يكشف عن شيء، وإنّما يكشف عن بنية الاختفاء. فما يظهره السرّ هو الاختفاء ذاته. ما وراء الستار مفعول للوهم الذي يبعثه فينا الحجاب عندما يمنعنا أن ننظر إليه كحجاب. هذا المفهوم يُرجع للمظهر كل قوته، مثلما يعيد للحجاب سمكه، وللسطح عمقه. لكن الأهم من ذلك أنه يجعل التستر بنية للكائن وليس كتمانًا للأسرار، وصونا للجواهر، وحفاظًا على الألباب.