22-ديسمبر-2015

مزار في تونس (Getty)

يعتبر التصوّف بصيغته الطرقية، إحدى دعائم الهويّة في منطقة شمال أفريقيا، وتنتمي الصوفية إلى الإسلام غير الرسمي، الذي يجد ترحابًا وإقبالًا من عامة الناس، الذين يعتقدون أنّهم يحتاجون إلى الوساطة بينهم وبين ربّهم لقضاء الحوائج والمغفرة لهم، وقد عرف شمال أفريقيا العديد من المتصوّفة الذين اعتكفوا بزواياهم وزهدوا في الدنيا وملذاتها، وعملوا الصالح من الأعمال ممّا أكسبهم حبًّا مضاعفًا في حياتهم ومماتهم، ومن أشهر أعلام الصوفية في تونس، أبو مدين الأنصاري وأبو الحسن الشاذلي وسيدي أبو سعيد.

قامت الصوفية بتبسيط المعتقد لدى العامة دون خوف أو ترهيب، وهو ما أضفى على التديّن مسحة من الحبّ والأمان

ويتمّ التقرب إلى الأولياء الصالحين ضمن طقوس احتفالية خاصة، وهو ما جعل لهؤلاء مؤسسات خاصة بهم وأتباع ومريدين، حتى بعد موتهم، يقومون بخدمة المقام وقراءة الأذكار والأوراد في الزاوية المخصصة لهذا، ويحظى الوليّ، أو من يمثله بالمنطقة المغاربية بسلطة رمزية، فهو يلعب دور الواعظ الديني من جهة، ودور الحاكم من جهة أخرى.

لا تختلف الطريقة الصوفية عن أيّ تنظيم سياسي له زعيمه ووزراؤه وأتباعهم، ويعتبر الشيخ متصدرًا أعلى السلم، وهو الزعيم الروحيّ وصاحب الطريقة، ويتمتع بسلطة مطلقة وهو المرجع الأوّل للأتباع، ومؤسس الأحكام التي يلتزم بها كلّ أتباعه. ويخلف الشيخَ الخليفةُ، وهو الرجل الثاني الذي يعوضه في البلدان البعيدة لنشر طريقته ومذهبه وكسب أنصار جدد، ويأتي المقدّم في المرتبة الثالثة، وهو الذي يقوم بتفسير الطريقة لدى العامة، ويأتي الأتباع في المرتبة الأخيرة، وهم أنصار الطريقة الذي ينتسبون إليها دون تكليفهم بوظائف رسمية، ويطلق عليهم بالأخوة، وما يعرف في المشرق بالدراويش.

المحبّة طريقة والحبيب طريق

يتفق الكثير أنّ الصوفية تركزّ كثيرًا على قهر الشهوات للوصول إلى نقاوة الروح، فالغرائز تعيق صفو العبادة ومعرفة الله، ويطلق على هذا السلوك بالطريقة، وهي جملة الطقوس التي تعنى بترويض النفس وقهر الشهوات للوصول إلى الحقيقة، أو إلى الله فهو الحبيب، ونستحضر في هذا أشعار جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، اللذين أظهرا الجانب المشرق والمضيء من الدين الإسلامي، لحثّ الناس على العبادة حبًّا وشوقًا، وليس خوفًا وطمعًا، فقد قامت الصوفية بتبسيط المعتقد لدى العامة دون خوف أو ترهيب، وهو ما أضفى على التديّن مسحة من الحبّ والأمان، الذي لم تجده مع غلاة السنّة، وفي هذا السياق نجد الفرق الموسيقية القديمة والحديثة التي تغنت بأشعار الحلاج والرومي وابن عربي، وقد حققت نجاحًا منقطع النظير، وعلى سبيل المثال نذكر في تونس الفنانة درصاف الحمداني، ولطفي بوشناق، وغالية بن علي، الذين راق لهم الغناء الصوفي، وحصدوا من خلاله نجاحًا كبيرًا.

أشهر الأولياء الصالحين في تونس: كرامات وزيارات 

يعتبر سيدي بلحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية، من أشهر أولياء تونس الصالحين، ويقبع ضريحه الرمزي إذ لم يدفن في تونس، فوق ربوة في العاصمة، وهو من أصل مغربي قصد تونس للتصوّف، وقد تتلمذ على يده الكثير، ورحل بلحسن الشاذلي من تونس مضطرًا، بعد أن كاد له قاضي المدينة لدى الأمير بعض الدسائس، فهرب خوفًا على حياته وأقام بمصر، وبعد رحيله من تونس، قام أتباعه بنشر طريقته، وذاع صيته بكلّ العالم، ويعتبر أحد أقطاب الصوفية الإسلامية، وما زال إلى اليوم أتباعه يقيمون الأذكار والأوراد، ويتصدقون على الفقراء من زوّار المقام.

تقام الولائم في أضرحة الأولياء في طقوس احتفالية، يرافقها أحيانًا تقديم العروض الفروسية

ما زال سيدي محرز، أو سلطان المدينة، كما يحلو لمريديه مناداته حاضرًا في أذهان التونسيين، يزورون ضريحه بباب سويقة من المدينة العتيقة، ولم يحظَ بحبّ التونسي المسلم فقط، بل شاركه في حبّه وتقديره التونسيّ اليهودي، وعرف بكونه فقيهًا وعالمًا، وتضمنّت سيرته مناصرته للمظلومين والمضطهدين من كلّ الأديان، إذ لم يفرّق بين مسلم ويهودي ومسيحي، بل عاملهم بكلّ حبّ ورفق، وتتناقل بعض الروايات الشفوية والأخرى المدوّنة، دوره في دخول اليهود إلى المدينة العتيقة، وبناء حارتهم هناك بعد مجيئهم من خارج المدينة العتيقة، ويُقال إنّ سيدي محرز وقف فوق سطح تكيته ورمى عصاه وحدّد موقع العصا حارة اليهود القريبة من جامعه وضريحه. 

كما عرفت بعض النساء الصالحات بتونس، واشتهرنَّ بكراماتهنّ، في جلب الحظ والشفاء من العقم والأمراض المستعصية وزواج العوانس، وأشهرهنّ السيّدة المنوبية، ويطلق عليها أيضا السيّدة النغارة، التي تثأر لأتباعها وتحميهم من الشرّ، وقد سميّت محافظة باسمها في تونس وهي محافظة منوبة، كما أنشأت فرقة تتغنى بأورادها ومعجزاتها.

وتعتبر الوليمة أو الذبائح التي تنذر للأولياء إحدى وسائل التقرّب إلى الوليّ، الذي يقوم بدور الوساطة، أو الذي يخلف النبيّ في الدعاء لأتباعه، وعادًة تقام الولائم في أضرحة الأولياء في طقوس احتفالية، تصل أحيانًا في بعض المحافظات من تونس إلى تقديم العروض الفروسية، وعزف الموسيقى الصوفية والرقص حتى درجة الإغماء، وتندرج هذه المظاهر ضمن طقوس العبور من الذنب إلى المغفرة ومن الضيق إلى الراحة.

الأولياء الصالحين ورقة رابحة في السياسة التونسية

قبل سنتين وفي حديثه عن الإرهاب، صرّح الجنرال رشيد عمّار أنّ تونس يحميها الأولياء الصالحون وتحظى ببركتهم، أثار هذا التصريح ردّات فعل متباينة بين السخرية والنقد، وبين الموافقة والمباركة، كما عرفت تونس أثناء الحملات الانتخابية في السنة الماضية، تباري زعماء السياسة في زيارة أضرحة الأولياء الصالحين لما يحظون به من حبّ وتقدير لدى التونسيّ، ولجذب جمهور من الفئات الشعبية التي تؤمن بكرامات الأولياء، ولا تسأل عن متطلبات الواقع الحالي وحلول الأزمة الاقتصادية، فوجدنا زعماء اليسار الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، السيّد حمة الهمامي في ضريح سيدي علي بن نصر الله في معتدية نصر الله بالقيروان، وأمين عام حركة نداء تونس، السيّد محسن مرزوق ضريح أو زمعة البلوي والمعروف بسيدي الصحبي بالقيروان وغيرهم، يتلون سورة الفاتحة على أرواح الأولياء الصالحين، وتتسابق الجرائد والفضائيات في رصد تحركاتهم وتنقلاتهم التي جعلت من الوليّ ورقة رابحة في سوق الانتخابات التونسية. 

لم يقطع التونسي مع الأسطورة وطقوسها، حتى وإن تضاءلت إلاّ أنّها تعيش كنمط مستتر في واقعنا، وتجد مكانًا في ظلّ حضارة عقلانية تكرّس الفصل النهائي بين الواقعي والخيالي، وتتجلى مظاهر الأسطورة في إعادة إحياء للنبوّات والمعجزات السابقة، كزيارة أضرحة الأولياء والتبرّك بهم، وإقامة الولائم وإشعال الشموع هناك، والتصدّق على الفقراء والمحتاجين الذين يقصدون هذه الأضرحة للتمتع بما يتصدّقه الزوّار هناك، ولعلّ هذه الطقوس الأسطورية التي تنزاح عن الواقع مؤقتًا، لينغمس الفرد في فترة حالمة، تساهم لتخفيف وطأة الواقع وحدّة الآلام التي يعيشها، فينتشي بعالم ميتافيزيقي يوفرّ له أسباب الراحة والأمان.

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. استيراد الطائفية

القنب/ الزطلة.. زووم على قانون 52 في تونس