06-ديسمبر-2015

رجل يحرق شعار حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين 23/8/2013 (Getty)

يمكن لحركات سياسية، بحدس عميق، أن تستغل لحظة زمنية مواتية، لترسخ نفسها كلاعب تاريخي لا يمكن هزيمته، لاعب يقوم بمهمة شديدة الحيوية للمجتمع، ولا يمكن للمجتمع أن يستغني عنها، لأن ذلك قد يعني انهياره الخاص. لكن لا يمكن لهذه الحركة أن تتخلى عن وظيفتها تلك، في لحظة زمنية أخرى، دون أن يعني ذلك، انهيار مقولات هذا المجتمع الكبرى، ومع هذا الانهيار، تتضاءل أهميتها الحيوية لهذا المجتمع.

خسر الإخوان، أثناء حكمهم، مهمتهم الوظيفية -الوساطة بين الإسلاميين والطبقة الوسطى- وكان ذلك إيذانًا بخسرانهم لكل شيء

منذ الصدام بين الجماعة الإسلامية والدولة، كان للإخوان مهمة وظيفية في المجال السياسي المصري، وهي أن تلعب -في ظل المد الإسلامي- دور الوسيط بين شرائح الطبقة الوسطى والإسلاميين، مصالحة هؤلاء على هؤلاء، وخلق حلول وسط نظرية، تسمح لها بأن تظل قادرة على تسويق نفسها لدى الطرفين. تصدى الإخوان لتلك المهمة، في لحظة، جعلتهم طرفًا لا يمكن الاستغناء عنه لأسباب اجتماعية قبل أن تكون سياسية.

المد الإسلامي كان مستمرًا منذ السبعينيات، ولكن ليس للدرجة التي تتيح زخمًا شعبيًا لعنف الجماعة الإسلامية، وكانت الدولة المصرية، المحافظة أساسًا، غير قادرة على خوض صراع صفري ضد الإسلاميين بمجملهم، دون أن يعني ذلك انهيار تماسكها الداخلي، قبل حتى شرعيتها الشعبية، لذا مثل الإخوان حلًا للمجتمع وللدولة، جماعة إسلامية غير عنيفة يمكن التفاوض معها، فيما يتم تصفية الأجنحة الأكثر راديكالية منها بدون عقدة ذنب.

لم تغير تلك المهمة فقط من طبيعة الإسلاميين، وخطاباتهم ورؤياهم للعالم، ولكن غيرت أيضًا رؤى الآخرين عن الديمقراطية وحدودها وإلى أي درجة يمكن دمج الإسلاميين في عملية سياسية تسع الجميع، أيضًا غيرت رؤى المجتمع الدولي عن المنطقة وطبيعتها وكيف يمكن التعامل معها وأي القوى يمكن الرهان عليها.

كأي عملية اجتماعية، أثر الإخوان في الطبقة الوسطى، جعلوها أكثر محافظة، أكثر تمسكًا بالمظاهر الدينية، وغيرتهم الطبقة الوسطى، بأن جعلتهم يتراجعون عن الشعارات الراديكالية للحركة الإسلامية في السبعينيات، لصالح أجندة إصلاحية محافظة، غير معادية لا للدولة ولا للمجتمع. أما أسئلة الشريعة، الأسئلة الأساس للصحوة الإسلامية، فقد تم تأجيلها حتى حين.

لذا سيبدو مربكًا، حين ننظر لسنوات هيمنة الإخوان الثقافية وصعودهم السياسي، أواخر عهد مبارك، لنرى أن شعاراتهم المطروحة حينها، لا تعدو أن تكون مطالب للطبقة الوسطى، تم تطعيمها ببعض الشعارات الدينية. كانت الطبقة الوسطى، غاضبة في السنين الأخيرة من حكم مبارك، من الفساد والرشاوي والمحسوبية، فأصبحت تلك عناوين لنضال الإخوان أيضًا، بالتأكيد كان جزءًا من ذلك، من أجل الحصول على ظهير شعبي، ولكن جزءًا منه أيضًا، أنهم كجزء من الطبقة الوسطى، كانوا يحملون نفس مشاعر الغضب، تجاه ما يظنون أنه نهب لثروات البلد، وتحجيم لقدرتهم -كطبقة- على النمو الاقتصادي وعلى المشاركة في إدارة الدولة. وكان النظام المباركي محافظًا، فعدا عن بعض خلافات الإخوان، مع بعض المفكرين أو وزراء الثقافة، لم يصطدم الإخوان مع النظام لأسباب "دينية" خالصة.

لهذا لم تكن الانعطافة الإخوانية، باتجاه السلفيين، بعد الثورة، ورفع شعارات إسلامية جذرية، وإن كانت مشوشة تمامًا، لتغيرهم هم فقط. خربت تلك الانعطافة المجال السياسي، شديد الهشاشة، الذي تم بناؤه قبل الثورة، بتوافقات خطابية بين الإسلاميين والعلمانيين. لم يلتزم الإخوان بدورهم المتفق عليه، كوسيط بين الإسلاميين والطبقة الوسطى، انحازوا تمامًا لطرف، فثار عليهم الطرف الآخر.

خسر الإخوان، أثناء حكمهم، مهمتهم الوظيفية -الوساطة بين الإسلاميين والطبقة الوسطى- وكان ذلك إيذانًا بخسرانهم لكل شيء. واصطدموا تحديدًا بالطبقات التي كانت واسطتهم في الصعود السياسي، وبانهيارهم انهار معهم المجال السياسي الذي صعدوا فيه وكانوا جزءًا منه، كما انهار معهم كامل بناء الإسلام السياسي الحديث، البناء الذي انهارت مقولاته، الواحدة تلو الأخرى.

ماذا يعني انهيار الإخوان؟

بجوار انهيار مهمتهم الوظيفية بتخليهم عنها، انهار مع الإخوان، أغلب الأساطير الكبرى المؤسسة للتحول الديمقراطي للإسلاميين، لقد تمت صياغة الخطاب الإسلامي الديمقراطي، كله، على أساس التسليم بكونهم سيخرجون منتصرين في أي انتخابات بنسب ساحقة، وحينها سيطبقون الشريعة كما يريدون، بدعم شعبي لا نهائي، أما أن ينازعهم آخرون الشعبية، وتخرج ضدهم مظاهرات جماهيرية ضخمة، ويتم التنكيل بهم بدعم شعبي، فلم يكن هذا كله موضوعًا في الخطة.

لا يعني الجزم بانهيار جماعةالإخوان، باستحالة سقوط النظام الحالي، وصعود الإسلاميين مرة أخرى، بل يعني انهيار أساطيرها الكبرى ومهامها القديمة

لم يخضع الإسلاميون، منذ "صحوتهم" في السبعينيات، لهذه التجربة من قبل، يتم ضرب الجماعة الإسلامية الأم، في معقلها الأساس، بدعم شعبي من شرائح كبيرة نسبيًا، وبالنسبة لجماعات بنت عقيدتها السياسية على مسلمة أنها أكثر شعبية ممن تعارضهم، كان هذا مربكًا جدًا.

والمفارقة، أن يرافق انهيار الجماعة، التي قامت، بحسب أدبياتها الرسمية، لتعويض غياب الخلافة، قيام تنظيم على أقصى يمينها، بإعلان الخلافة فعلًا. لكن هذا التنظيم، نتاج وحشية الواقع ووحشية الشعارات، لن يضره أن يحكم بلادًا مدمرة، ويعذب شعوبها، هو لم يدع أنه يريد أكثر من ذلك، إقامة الحدود وقتل المرتدين، هي كل شيء بالنسبة له ولأنصاره، لا أحلام بدولة قوية، أو بحلول سريعة لمشاكل طبقات معينة، أو بنهضة اقتصادية أو بعدالة اجتماعية، تنظيم متخلص بشكل كامل من كل مطالب إسلاميي الطبقة الوسطى، جنون ديني محض ومنفلت.

إذن، وبشكل متزامن، تم تجريب/تخريب النموذج الإسلامي، بنسختيه الديمقراطية والجهادية، وكلا منهما، لم يحظَ بحشود شعبية عريضة تحيي "عودة الإسلام"، وكان على كل منهما أن يخوض حربًا أهلية ضد بقية المسلمين، ليرسخ حكمه. حكم الإسلاميين، لم يعد يعني، عودة الهوية للشعوب، كما جادل المنظرون الإسلاميون أحيانًا، ولا النهضة الاقتصادية وبركات السماء والأرض، كما جادل آخرون، بل يعني انتصارًا لأحد فصائل الحرب الأهلية ضد فصائل أخرى.

كما أن هذا الانهيار، رافقه عامل مهم آخر. وهو انتقال الثقل الحركي للإسلاميين، وللمرة الأولى، خارج مصر. لم يعتد الإسلاميون في مصر، أن يكونوا التابعين، لا القادة، للحركة الإسلامية. كانت الجماعة في مصر، هي المتحكم الأساسي في التحولات الخطابية للإسلاميين، وبفشلها المدهش في إدارة تجربتها الخاصة، بجوار القمع الضاغط عليها، يمكن القول أن استعادة الجماعة لذلك الثقل، مرة أخرى، أصبح صعبًا جدًا.

يظهر الإسلام السياسي، وكأنه قد تلقى صدمة لم يستوعبها، بعد، تمامًا. انهارت جماعته الأساس، وانهارت مقولاتها الكبرى، وتزامن ذلك مع ابتذال حلمها الأكبر، الخلافة، دون أن تستطيع حركة إسلامية أخرى أن تلتقط اللواء من الأرض لتكمل المعركة، وبالاستناد، إلى ضحالة النتاج الثقافي التاريخي للحركة الإسلامية، لا يبدو أن قيامها بنقد ذاتي وخلق لمقولات كبرى جديدة، سيكون سهلًا.

لا يعني الجزم بانهيار الجماعة، باستحالة سقوط النظام الحالي، وصعود الإسلاميين مرة أخرى، بل يعني انهيار أساطيرها الكبرى ومهامها القديمة، وأنه حتى إذا ما وجدت ظروف جديدة، سيستحيل تشكيل الجماعة، بشكلها التاريخي مرة أخرى، يمكن للاسم أن يستمر، لكن سيتغير تكوينها الطبقي، وطبائع منتميها، ونظرتها للعالم، ونمط حلولها.

أما جماعة الإخوان، جماعة مهنيي الطبقة الوسطى المحافظين، ذوي الابتسامة المهذبة المصطنعة، الناجحين مهنيًا، ومناصريهم من الريفيين الطيبين، الجماعة التي كانت كل خبرتها، مكثفة في الأعمال الخيرية والحشد الانتخابي، فذلك، كله، أصبح تاريخًا يحكى.

اقرأ/ي أيضًا: 

لماذا لن يصبح حزب النور "سفينة نوح" للإسلاميين ؟

الانتخابات البرلمانية المصرية..فاز رجال السلطة