27-أغسطس-2015

ماتت السيّدةُ النحيلة/ كان لمشيتها في البيتِ ضجة

"ظننتُ أنني سأكتب عن بهجة يماني وعن أصابع عمّنا التشكيليّ عندما يشدّ لحيتِهِ مع بداية كل جملة يقولها، عن غناء مهاب أو الكرسيّ الذي كان يجلس فيه ياسر في الركن يتفرّج على الآخرين.. لكني كتبت عن أروى صالح التي في الغرفة الأخرى، عن أنني أعرف أنها لا تنام، عن ظهرك الذي ألمحه من مكاني يا إيمو وأنت تسندين ذراعيك على حديد الشرفة. وعن الأزيز، أزيز أسمعه وحدي بينما ألفّ سيجارةً أخرى سيتقاسمها شعبٌ من المنتظرين"، (حتّى أتخلّى عن فكرة البيت، 2013).

إنّه الشعر الذي يتسرّب من سرد التجارب اليومية والانفعالات الذاتية تجاه الخارج

لا تأتي كتابة الشاعرة المصريّة إيمان مرسال (1966) من مجالات قصيدة النثر الخام. نعني تلك النصوص النثريّة التي نعرف أنها تكون مهجوسة، في الأصل، باستعاراتٍ تندرج في جمل موجزة ولامعة، بل إن شعر مرسال، يعيش في جنّة السرد. شعرٌ نرى ما يكاد يشبهه شكلًا وثيماتٍ في تجارب الشعر الأمريكيّ المعاصر، طبعًا مع فارق الحساسيات اليومية وسياقات كل تجربة، دوريان لوكس مثالًا لا حصرًا. 

إنّه الشعر الذي يتسرّب من سرد التجارب اليومية والانفعالات الذاتية تجاه الخارج. انفعالات حياتية خافتة تبدو، في الظاهر، هامشًا على أنّ لعبة الإبداع في هذا النمط من السرد اللغويّ بحساسياته الفائقة توحي للمتلقّي، كأنها تخلق وظائف جديدة للأعضاء والأشياء العادية والأشكال المألوفة.. وظائف ووجوها تيث مشاعر حميمة مغايرة لم تكن في الحسبان، أو إذا صحّ التعبير لم تكن مرئية من قبل. إنّها مشاعر توقع السرد في حيرة إعادة طرح التعريفات على الشعر. نقصد تلك الأسئلة الاشكالية التي تتوخّى تعريف النوع الشعريّ، وتحديدًا قوالبه التي يُنجز فيها النثر.

"ماتت السيّدةُ النحيلة/ كان لمشيتها في البيتِ ضجة/ فقد اضطرّت دائما للتشبّثِ بأثاثها الخشبيّ/ من أجل العبورِ بين غرفتين/ وعندمَا كانت تنتظركَ/ كانَ صوتُ تنفّسها يخترق الجدران/ أظنّ أن مَطبخكم تحوّل الآن إلى خرابةٍ/ وأن فأرا واثقا بنفسه/ مرّ من أمامك حالًا/ أُخمّن كلّ شيء/ أنتَ تجلسُ الآن في الرّكن/ بدون الروائح الأليفةِ لطعامها اليوميّ/ وستضعُ بعد قليل رأسكَ/ حيث لم تتوقّع أبدا/ فوق ركبتيْك"، "وأتأمّل جِلدي/ حيث لا شيءَ يلتصق به/ فقط أزدادُ نحولاً/ كأنني أُجهّز نفسي/ لطيرانٍ ذاتي"، " سأعترفُ لهم يوماً/ بصوتٍ متوترٍ يوازي الخطر الذي يستحقّ الفخر/ سيكون رائعاً/ أن أُوَسّع شرايين أصدقائي العاطفيّة/ التي ضاقت من الأمان المزمن/ بتفاصيلَ تمنيتُ لو حدثتْ/ ولن أخبرَ أحداً/ أنني أخفيتُ عنكَ الجُرحَ القديمَ في الرّكبةِ/ الجُرحُ الذي كان مَنْ أحببتُ يُقبّله/ كمقدمةٍ طقوسيةٍ للبكاء"، "الزوجةُ/ تلمّ الآن الملابسَ النظيفةَ من حبل الغسيل/ وتدوسُ على زهورِ السجادة/ ربّما ما زالت الزهورُ مبللةً/ برائحة جسديْن لم يكُن لديْهما الوقتُ الكافي/ فحصّلا المتعةَ من تصاعدِ الرُّعب"  (المشي أطول من الممكن ،1997).

بالطبع، ليست نصوص إيمان مرسال، صاحبة "جغرافيا بديلة" (2006) التجربة الأولى في أنماط  النثر السرديّ. ثمّة تجاربُ أسبق من الثمانينيات في النثر العربيّ تقارب هذا النمط في تقفي الشعر عبر سرديات يومية، تطول أو تقصر بأنفاس ومزاجات متفاوتة. على أن البحث عن فرادة نصوص إيمان مرسال، سيما نصّها الفارق في تجربة جيل التسعينيات النثرية، "ممر معتم لتعلم الرقص"، تتّصل بالضرورة بفكرة أنّ السرد كنمط كتابيّ يعتبر، في وجه من وجوهه، قالبًا ملائمًا يتحمّل هذا الكم من المشاعر السلبية والاهتراء الداخليّ الخافت، والوجود الذاتي الذي يعكس مأزقًا أنطولوجيًا في نفس الكائن، مأزق لم يعد أيّ نوع من قوالب الخطابة الشعرية، أو الصخب العاطفيّ الشعريّ، أو النثري المعروفة توازي مزاجاته.

 يعتبر السرد في وجه من وجوهه قالبًا ملائمًا يتحمّل كمًا من المشاعر السلبية والاهتراء الداخليّ الخافت

إنه شعر يفتحّ  أوصالَ جنة سردية وقد لا يكون مهجوسًا للوهلة الأولى بأي تعريفات، بل هو تلقائيّ في عرض المشاعر بالطريقة السهلة التي تكون ممتنعة وعصية على التقليد، إذ هي تعكس حميميّة الشاعر نفسه وتجربته البالغة الخصوصيّة وحسب ".. إيمان/ طالبة بمدرسة: إيمان مرسال الابتدائية/ ولم تستطيع عصا المدرّس الطويل/ ولا الضحكات التي تنطّ من الدكّات الخلفية/ أن تنسيني الأمر/ فكرت أن أسمي شارعنا باسمي شرط توسعة بيوته/ وإقامة غرف سريّة/ بما يسمح لأصدقائي بالتدخين داخل أسرّتهم/ دون أن يراهم إخوتهم الكبار"، "عندما عدتُ مع الأقدام الكثيرة/ من دفن أمّي/ وتركتها تربّي دجاجاتها في مكانٍ غامضٍ/ كان عليّ أن أحرس البيت من تلصّص الجارات/ وتعوّدتُ الجلوس على العتبة/ في انتظار البطلة/ التي يظلمونها دائما/ في المسلسل الإذاعيّ/ ويوم حصلت صديقتي على تأشيرةٍ/ لاختبار جسدها في قارّة أخرى/ ورغم أنّها لم تنسَ/ كعادتها/ سجائرها على مائدتي/ تأكّدتُ أنَّ التدخين ضرورةٌ/ وصار لديّ درْجٌ خاص/ ورجلٌ سرّيّ/ هو ذاته حبيبها القديم" (ممرٌّ معتمٌ لتعلم الرقص، 1995). "لا أظن أنّك من خلف زجاج النافذة/ يمكن أن تدرك هؤلاء الذين تمزّقوا من قبل/ لا شيء يميّزهم في الحقيقة!/ أقصد، ربما كل منهم لا يشبه إلا نفسه/ مثل ملصقات مختومة تم نزعها من أغلفة المظاريف/ وانتهت عند هواة جمع الطوابع" (حتّى أتخلّى عن فكرة البيوت).

تحيل نصوص إيمان مرسال، المتحصلة على درجتيّ الماجستير والدكتوراة من جامعة القاهرة، الماجستير حول التناص الصوفي في شعر أدونيس، كما تقدّم، إلى إعادة طرح إشكالية التعبير الشعري، سيّما ما يجعل النصّ اللغويّ السردي على تنوع طرائق رص السطور فيه، قصيدة شعرية فائقة الجودة. السرد في شعر إيمان مرسال، وفي الشعر عمومًا، ليس غاية بالطبع بل هو سطح تعبيريّ مستثمَر إلى حد بعيد بمزاجات لغوية وحساسيات شعرية عالية تبطّئ، لناحية طريقة تخزين المشاعر والصور، هذا السرد في ذهن المتلقّي أو القارئ. في هذا الحيز تحديدًا، يتمفصل النصّ الشعري عن أي قصّ عادي أو مطلق سردٍ حكائيّ.