23-ديسمبر-2015

حداد شاعر وروائي، له أكثر من ثلاثين كتابًا، لكنه يبقى بعيدًا عن الإعلام متفرغًا للكتابة

يتسلق الكاتب الفرنسي من أصول تونسية أوبير حداد الخيال، كأنه سماء باسقة عليه اقتفاء وقعها. وبتبنيه نظريات علمية غير مثبتة ومليئة بالشك، يواجه التباسات الأسئلة غير الممكنة. ففي عمله الجديد الصادر عن دار "زولما" في باريس، يتقصى حداد الخيال العلمي في مواجهة الموت وفكرة الخلود. 

 في روايته "الجسد المرغوب"، يتسلق أوبير حداد الخيال ,كأنه سماء باسقة عليه اقتفاء وقعها

في عنوان الرواية "الجسد المرغوب"، سيميائية دالة على أن ما يطرحه أبعد من حضوره اللغوي، فهو العيش في جسد آخر مليء بالرغبة، واشتهاء العيش فيه يأتي بعد حادث اضطراري، فالرغبة هنا ليست كيفية، بل ابنة ظرف قاس.

لكن كيف السبيل إلى ذلك، إذا كانت العملية معقدة للغاية. والعلم لا يعدها سوى أحجية، والإقدام على هذه الخطوة يحمل خطورة، يحذّرنا الكاتب في مطلع روايته منها فيقول: "لا معجزة ضد القدر المحتوم". ففي الرواية يصاب البطل، والذي يدعى سيدريك ويبرسون، بشلل رباعي بعد حادث على متن مركب شراعي. يقترح والده، الرجل الغني عليه عملية زرع جسد آخر له. مستعينًا بطبيب إيطالي يدعى جورجيو كادافيرو. ويسعى هذا الطبيب إلى تطبيق نظريته العلمية عبر عملية جراحية لزرع رأس في جسم آخر وبكلفة عالية. 

فكرة الرواية ألهمته بها محاضرة قدّمها الجرّاح الإيطالي سيرجيو كانافيرو في مؤتمر طبّي، قال فيها عن إمكانية زرع رأس من الناحية التقنية في جسد آخر، وذلك مع بداية العام 2016، موضحًا أن نجاح العملية مشروط بكلفة مالية كبيرة. 

وفي الرواية يتبنى حداد النظرية ويقيسها على بطله "شبه الميت"، ويحاول أن يقول لنا إن الإنسان ليس فقط ذا تكوين عقلي أو جسدي فحسب، بل هو نتاج تكامل "مجنون"، وصاخب بين الاثنين. فيأخذنا في رحلة شاقة إلى اكتشاف رأس إنسان في جسد غريب عنه. يصير فيه البطل باحثًا عن نفسه، ومتسائلًا عن هويته. فتبدو معها هذه الأسئلة الحائرة، أكثر قسوة من العلاج الفيزيائي الذي يخضع له. سيدريك الذي خضع للعملية، يتفاعل مع جسده الغريب بتساؤلات وجودية، تخضعه لألم وحزن كبيرين. فرأسه يرفض هذا الجسد الجديد، كما يرفض الأخير قبول الآمر الذي لا يستجيب لرغباته.

نتابع في الرواية بدهشة كيف تنساق معشوقة سيدريك بشكل غير مسبوق إلى جسده. خصوصًا أنها رفضت الزواج به، وتركته قبل لحظات من الحادثة. فهو لم يعهدها بهذا الزخم العاطفي والرغبوي كما كانت مع جسمه السابق. يطرح هذا المشهد إشكالية حول المعطى المجازي لحقيقة الجسم، وكيف نتمنى أحيانًا أن نملك أجساد أشخاص آخرين، أو كيف يحلم البعض بعقول البعض بدلًا من رؤوسهم المحشوة بأفكار بالية. إنه تخمين الأسئلة القاسية. ماذا لو كنت أحدًا آخر؟ 

 يتبنى أوبير حداد، في روايته، نظرية الجرّاح سيرجيو كانافيرو عن إمكانية زرع رأس من الناحية التقنية في جسد آخر

رحلة الرواية تبعث على الانتظار والترقب، فنكتشف أن الشاب عاش طفولة رقيقة ومرتخية، لكن حياته تتغير بعد انتحار أمه أمام عيني والده، الذي يقطع علاقته به ويتفرغ من بعدها للكتابة في مجال الأدوية الطبية، والتحري عن المصانع غير المرخصة، وإمضاء هذه المقالات باسم وهمي مختلف. ونتساءل في هذا النص الروائي عن كيفية أن يعتاش إنسان مع جسم ليس له؟ كيف يتحمل أعباء هذه الأعضاء الحميمة والغريبة عنه، وكيف يتكيف معها؟

يتكبد سيدريك عواطف وأفكار مختلطة. فيقوده جسده بالصدفة في صقلية إلى معشوقة صاحب الجسد الآخر المجهول. إنانتا، التي قضى صاحبها "صاحب الجسم" في حادث سير، تتفاعل معه كأنها تعرفه وتتمادى في شهوتها. هذا الفصام الغريب الذي يتعايش معه البطل مع معشوقتين، يزيد من حبكة النص سحرًا ودهشة. فالعشيقة الأولى، لورنا وهي صحافية، تتغير سجيتها الجنسية معه، وإنانتا تقبل عليه بشهوة عارمة مع حب أليف لم يختبره من قبل. فيحس أنه في جسم رغبوي مليء بالطيش والإشباعات المبتورة، وبذاكرة حادة من الخبرات الجنسية والشبق والشباب. بينما سيدريك يعيش في رأس مليء بالأفكار والخيارات الصارمة، والتي تأخذه أكثر إلى احتمالات الشك، وتعيده إلى دوامة أسئلته الحائرة حول هوياته المستترة والمعلنة بين جسم ورأس غير متآلفين. ولا يفهمان ماذا يريد أحدهما من الآخر، وكيف يتصرفان تجاه الأمور. فلكل واحد منهما خبراته المنفصلة وعاداته غير المتناسقة.

تحاكي الرواية الخيال العلمي في بعده الفلسفي والنفسي أيضًا. ويستند فيها الكاتب على مراجع أدبية وما ورائية وميتافيزيقية، يبدو أنها أخذت جهدًا طويلًا منه. وصنعت الحبكة بلغة قوية شاعرية وسلسة، وفيها كثير من تحطيم الصورة الأدبية الراسخة والمعترف بها. فلغة أوبير، تخرج من مألوفها اللغوي والتركيبي لتحط في قالب يحاكي اتجاهات مختلفة. وهو يقول لنا في روايته هذه إنه لا أحد يمكنه أن يعيش الخلود والأبد، ومحاولتنا الخلود وتحدي الموت، سندفع ثمنه في هذا الضياع والتيه وبحر من الأسئلة.

يشار الى أن أوبير حداد، ولد في تونس، من أصول مختلفة، ليغادرها وهو في الخامسة من عمره، كي يقيم في باريس. شاعر وروائي، له أكثر من ثلاثين كتابًا، لكنه يبقى بعيدًا عن الإعلام متفرغًا للكتابة. 

اقرأ/ي أيضًا:

"سيد المرصد الأخير".. مصائر الزعامات المحلية

"أن تحبك جيهان".. مجتمع على الحافة