23-أبريل-2018

أنسل آدمز/ المكسيك

فضّلت غنائيًا، أن تبدأ رحلتي الجوّية من الجزائر العاصمة إلى الخليج العربي مع أبي بكر سالم، كيما أمهّد للقبض على اللحظة الخليجية. فأنا أتخذ من الموسيقى مدخلي الأوّل للولوج إلى روح المكان.

اخترت أبا بكر سالم، لا لأنّني أريد صوتًا ذا قرار بعمق السّماء فقط، بل وفاءً لأوّل مرّة اكتشفت فيها صوته عام 1994 على يد صديقي وزميلي في ثانوية سعيد زرّوقي/ مدينة برج بوعريريج فارس لوماسين.

كنت أيّامها حديث عهد بثاني عشق مخلخل في حياتي. وكنت محتاجًا إلى صوت غنائيّ يتميّز بالقوّة والعناد ليعبّر عن روحي المثقوبة. ذلك أنّه من الخطورة أن يسمع عاشق مطالب بالتّجدي صوتًا متمسكنًا. ما علاقة العشق بالموسيقى؟

زهدت في فواكه عبد الحليم حافظ وهاني شاكر وعماد عبد الحليم وعزيزة جلال وفيروز، وتعلّقت بشجرة أبي بكر سالم. لقد وجد قلبي أين يتسلّق مؤقتًا. لماذا لا نكتب عن الفنانين الذين رافقوا براكيننا العاطفية الأولى؟

كنت خاضعًا للنظام الدّاخلي في الثّانوية، حيث لا نعود إلى قرانا إلا خلال نهاية الأسبوع. ولم يكن يُسمح لي أن استمع إلى الموسيقى في المرقد، إذ يلزمنا الحارس "الطّحطاح" بالنّوم نصف ساعة بعد الدّخول. "الرّاس تحت الغطاء"، هكذا كان يصيح فينا، فنلتزم أسرّتنا مثل كتاكيت سمعت ندير النّسر. كيف يسمّى صوت الدّجاجة حين تحذّر صغارها من سيّد الأجواء؟

مرّةً.. عشيّة يوم الإثنين، حيث كانت الإدارة تسمح لنا نحن التّلاميذ الدّاخليين بأن نخرج إلى المدينة بعد الغداء إلى السّاعة الخامسة، عثرت على أشرطة لأبي بكر سالم في محلّ صغير داخل السوق المغطّى، فكأنني عثرت على كنز عظيم.

كنت فقيرًا. فعرضت على صاحب المحلّ أن يُقايض كلّ شريط له بثلاثة أشرطة قديمة أملكها. سألني مستهينًا: "واش عندك؟". فأجبته متحمّسًا: عندي محمد بلخياطي.. نجاة عتابو.. فايزة أحمد .. رابح درياسة.. عبد الحليم حافظ.. ميّادة الحنّاوي.. الخ. كيف نعرب "إلخ" هذه؟

 

أدرك أنّ صغر سنّي (17 عامًا) لا يعكس ذوقي، فوافق على عرض المقايضة. كان عِشِّيقًا لأمّ كلثوم، فسألني مبتزًّا: عندك أمّ كلثوم؟ قلت له: إلا الستّ فلن أتنازل عنها. هناك طفح وجهه بفرح خاص، وتناول أربعة أشرطة لأبي بكر سالم: شوف يا حلّوف.. على وجه أم كلثوم خذها مجّانًا.

لقد شفعت كوكب الشّرق في كثير من الفنّانين، فلم تذهب أشرطتهم مقايضةً، لكنها لم تستطع أن تمنع قطيعًا من الإرهابيين هجم ليلًا على حوشنا، في قرية أولاد جحيش عام 1995، حيث خسر أبي بندقية صيده، وخسرت أنا كنّاشةً كنت كتبت فيها يومياتٍ لي وسبعةَ عشر شريطًا لأمّ كلثوم أمروني بتخريبها أمام أعينهم. هناك أدرت أنّ من يستمتعون بتخريب الموسيقى لا يحدون حرجًا في تخريب العالم.

لم يكن أبي يسمح لنفسه بأن يبكي أمامي أنا وحيده، الذي يُعدّه لأن يكون ترّاسًا/ فارسًا يتحدّث عنه أولاد جحيش. ولم أكن أسمح لنفسي بأن أبكي أمامه تأكيدًا لفروسيتي. لكننا، في تلك الليلة تداعينا دموعًا في حضرة بعضنا. هو بكى بندقيته العزيزة، التي اشتراها بدم فؤاده، وأنا بكيت يومياتي التي أرّخت فيها كيف كنت أتحايل على الموت وأشرطة الستّ التي كانت تمنح ليلياتي أقمارًا خاصّة.

بعد أربع وعشرين سنة من اكتشاف صوت أبي بكر سالم، كنت عضو لجنة التّحكيم في "أيام نوميديا لمسرح الطفل بمدينة برج بوعريريج، فسلّمت علي إحداهنّ وطلبت مني أن أوقّع لها نسخة كانت تحملها من كتابي "يدان لثلاث بنات".

سألت عن اسمها لأضمّنه للإهداء، فقالت إنها تريد أن يكون الإهداء لصديقتها فلانة. ولم تكن فلانة تلك إلا الفتاة، التي كنت أبحث عام 1994 عن صوت غنائي مفعم بالقوة والعناد يستوعب قوّة وعناد عشقي لها، فكان صوت أبي بكر سالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمر ممكن في نصال السكاكين

مرايا الفوز