04-ديسمبر-2015

يقدم مكاوي سعيد روايته بتقنية الأصوات المتعددة

أوقات ضائعة في علاقات عابرة.. غير منطقية لكنها واقع لا فكاك منه فرضته أحداثٌ ورغبات وضرورات تتبخر في نهاية المطاف، ليعود كلٌ إلى زاويته الضيقة بعيدًا عن غرائبية ما عاشه من تشوهات مرحلية كان لا بد أن تنتهي بصدمات تصل إلى الموت.

ترصد رواية "أن تحبك جيهان" المقدمات التي أوصلت إلى الثورة في مصر

هكذا جاءت أجواء رواية الكاتب المصري مكاوي سعيد الأخيرة "أن تحبك جيهان" (الدار المصرية اللبنانية 2015)، التي ترصد لمرحلة ما قبل ثورة "25 يناير" في مصر، محاولة شرح تفاصيل دقيقة لما كان عليه المجتمع المصري -من وجهة نظر الكاتب- قبل أن يصل جزء كبير من الشعب إلى رغبته بالثورة على كل ترهلات مجتمعه التي صارت مع الوقت عبئًا يخنقه، واصلة به إلى خيارين لا ثالث لهما، فإما السير في الطريق المجهول للبحث المسعور عن الثروة، في سبيل التخلص من ضغوط الحياة الكثيرة، أو الغرق في المثاليات التي لا تطعم خبزًا، وصولًا إلى الموت قهرًا من واقع لا يحتمل أن يكون فيه صوت إلا للمال والسلطة التي تسيّر تحت كنفها المحسوبيات والشللية في جميع مستويات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية.

رواية مفعمة بالتفاصيل التي تتشعب في شخصيات كثيرة تحيط بأبطال الرواية الثلاث أحمد الضوي وريم وجيهان، حيث معادلة التفكك الأساسية بالارتباط الجسدي بالأنثى الأولى، والروحي بالأنثى الثانية، لتصبح العملية أشبه بتعويض عن حرمان بعلاقة تغيب فيها الرغبة ويحضر محلها الحاجة لعدم التفكير.
 
كل شخصية تسير بمنحى مختلف تجمعها هوامش من التفاصيل ويفرقها الكثير من المفردات المتعلقة بمشكلات حياتية ماضية وحاضرة، في قصة تشبه بتركيبها إلى حد ما، ما عرض في فيلم المصري "بتوقيت القاهرة"، من حيث انعدام الترابط الواضح بين القصص، رغم وجود ارتباط خفي يمثل الحبكة الأساسية في أنه لكل أزماته التي تجعله بحاجة الآخر بقدر ما تجعله بعيدا عنه!

أحمد المنتمي إلى بيت صعيدي لا يعني له شيئًا بكل وراثيته المادية والمعنوية، سوى بذكريات غريبة عن والدة فضلت عنه خاله الذي أحبه أيضًا، قبل أن يموت بداء القهر بعد أن قضى أيامًا طوال في سجنه السياسي، ليقتله حلمه اليساري في دولته الأمنية، وتموت الأم بعد أخيها، تاركة أحمد لأبيه الذي اعتاد اصطحابه للبارات ليشربا سوية، وزوجته جليلة التي فضل أن يتركها بصمت دون فضائح، بعد أن كشفت له أنها لم تكن بنتًا كما ينبغي لأي لم يلمسها أحد قبل الزواج.

في رواية مكاوي سعيد، أصوات متعددة تشكّل صورة عن مجتمع لا يملك أشخاصه سوى انتظار لحظة الانفجار

كذلك هي ريم، التي حلمت يومًا أن تصبح ممثلة، لتواجه واقع عالم التمثيل المليء بغرف النوم التي تمر عبرها النصوص الثقيلة، لتدفن حلمها مع زوجها الذي تركته بعد أعوام مع ابنتهما ملك لتلتقي بأحمد، وتعيش حياتها الصاخبة قبل أن تقرر أن تدفن نفسها مرة أخرى بعد مراجعة شريط ذكرياتها القامتة مع والدها المقامر، الذي مات سجينا في زنزانته بعارٍ أبدي حملته ريم على عاتقها.

لا يقل واقع جيهان قتامة عن ريم وأحمد، حيث المصورة التي لا تجد نفسها قادرة على رصد ما تريد كما كانت تحلم، ولا تجد الزوج الذي أمنت بموهبته في النحت قبل أن تقتله تلك الموهبة نتيجة صراعات الشهرة والمحسوبيات التي تلاحقها، فضلًا عن ملاحقة الصديقات بثرثراتهن والأصدقاء برغباته الجامحة في صيدها كأنثى لا يحيط بها إلا اليأس. تمضي الرواية في سرديات أبطالها الثلاث، بأصوات متعددة لرواية هدفت تشكيل صورة عن مجتمع لا يملك أشخاصه سوى انتظار لحظة الانفجار، لتنتهي حياة كل منها على عكس ما كان يريد.

على جدران حمام بيت أحمد تركت ريم آثارها القبيحة لنهاية علاقتهما التي قرأها صديق عماد الضابط بأنها بداية لتشكيل جريمة متوقعة، خاف على صديقه منها، ذلك الصديق الذي كان لا بد منه لأحمد المقاول، ليدفع عنه حروب السوق التي لا تنتهي، قبل أن يصبحا صديقين متناقضين في كل شيء، فعماد ضابطٌ يملك السلطة التي تمنحه كل ما يريد من قوة ليفرض نفسه بطلًا على الجميع ومنهم أحمد الذي وجد فيه ملاذًا يستطيع الاعتماد عليه في حال الضرورة.

وفي أرض ميدان التحرير في وسط البلد، وقف أحمد مع جيهان هاتفًا لثورة الشعب، بنوع من المجاملة للحبيبة المأملة، ضاربًا بعرض الحائط نصائح ريم بأن كل ما يحصل هو خدعة، ليكون ضحية حب جيهان ورغبته في أن يعترف لها بذلك، قبل أن يسرقه الموت وتسرقها لحظات توثيق الثورة التي كان لابد منها لنهاية حكاية الموت البطيء الذي تصوره الرواية الطويلة.

يعاني المجتمع الثقافي والفني المصري من مؤامرات وخيانات وأحقاد

يقدم سعيد روايته بتقنية الأصوات المتعددة التي روت أحداثها، معتمدة على لغة بسيطة وصلت إلى العامية المصرية في الكثير من الأحيان، مستندًا في سرديته على قناعات راسخة ربما، بفكرة أن المجتمع الثقافي والفني المصري يعاني من مؤامرات وخيانات وأحقاد تركت أثرها في أحداث الرواية نفسها. رغم السرد الطويل لحالات شخوص الرواية إلا أنها لم تستطع إيصال قناعة تامة بكون هذه الشخصيات قادرة على المشاركة بثورة، ما يوحي بأنها كانت تحتاج نحتًا أكثر لشخصياتها الرئيسية، من أجل إظهار قدرتها على الانخراط السريع بثورة لا تعنيها أصلًا، كونها بعيدة عن الأجواء الثورية بشكل عام كما أظهرت الرواية، حيث تجدها فجأة في الوقفة الخاصة بالتنديد بجريمة كنيسة القديسين التي سبقت ثورة 25" يناير"، لتعلن عن نفسها دون أي مقدمات بأنها ثورية. 

افتقدت الرواية القدرة على النقل المرن للأحداث، فلم تكن التراتبية الحدثية حاضرة بشكل شبه كامل، وسارت الأحداث بطريقة الصدفة غير المتوقعة، إلى حد افتقاد حلقات كثيرة ضاعت ضمن التفاصيل الكثيرة كان يمكن أن تكون أكثر ترابطًا لو اشتغل الكاتب عليها على حساب تفاصيل حياتية يومية لشخوص الرواية. لكن النص تمكن نوعًا ما من رصد واقعٍ أراد الكاتب إظهاره، متمثلًا في الكثير من الأمور الخفية داخل المجتمع المصري التي لا يمكن رصدها بسهولة إلا عبر قنوات ومعارفٍ وتقصٍ يتميز به مكاوي سعيد دومًا، كما في أعماله السابقة، عن مجتمع مصر والقاهرة على وجه الدقة. 

اقرأ/ي أيضًا:

إدوار الخراط.. سيرة انشقاق

لا وحشة في قبر رضوى