28-يونيو-2020

روبرت مذرويل/ امريكا

أنا كفن الآن، أتجول بهيئتي الجديدة، شريطة بيضاء، أكثر ما يرعبني خفتي، في أي لحظة ممكن أن يأتي الهواء ويمحوني، فكيف سأثبت وجودي بعدها؟ أريد روحًا لبشري، جسد أحدهم يكفي ليثقل وزني، لو كان طفلًا أو عجوزًا، أريد الكثير من الأرطال لتنجيني من الاختفاء، كل شيء هنا مرعب، أن تختفي مرعب، أن تعيش مرعب، أن تفقد روحك ويكون لديك قبر مرعب، استطعت معرفة كل هذه الأمور بعد أن أجبرت الميت الذي كنت ألبسه أو يلبسني، أن نخرج من التابوت بسرعة قبل أن يثقل الرمل المنهار على رأسينا... وافقني غصبًا عنه، حتى صرت أسود او طينيًا بعد أن حفرنا كثيرًا للسطح، لكنه تركني فور وجود بنطالون جينز كحلي بدا صغيرًا جدًا عليه، وبلوزة وردية لا تليق بوجهه، على باب المقبرة، رماها أهل أحدهم بعد موته، ربما كانت تعود له وهو صغير هذا ما اعتقدته، ورغم ذلك كان عليه أن يلبس عباءة، تركني مكانها وأخذت الهيأة هذه، هل أنا سعيد الآن؟ هل كنت سعيدًا عندما ألبسوني الجسد الميت؟ هل فكرت يومًا بأن أكون سعيدًا مع كل هذا؟ أنا لا أعلم، كل ما أعلمه أني كنت سعيدًا جدًا خلال انتظاري مطويًا في كيس على رف المحل، كنت أفكر دائمًا بالشخص الذي سألبسه كيف سيكون شكله، وكان صاحب المحل أبو لطفي دائمًا يخبرنا نحن الأكفان أننا إذا خرجنا لا نعود بالمرة، لأن الموت لا مجال للتراجع به إذا جاء، كنا سعيدين جدًا بهذه الفكرة، يكفي أن يأتي دور الواحد منّا ويخرج من الرف..

سألعن أبو لطفي يوم أجده وألبسه لكذبته السوداء هذه، لقد سوّدت حياتي كلها، على كل حال أعود بك يا حارس المقبرة لما حدث، بعد أن لفني المغسل على الجسد رأيتني كم كنت كبيرًا، لأول مرة في حياتي أرى جسدي الممطوط داخل الكيس بهذا الحجم، هل لك أن تتخيل أن جسدك يصبح فجأة أطول بأمتار مما انت عليه؟ أنا عشت ذلك لا عليك، كنت سعيدًا جدًا يبكي حولي العشرات من الناس، يتهامسون بأمورٍ بدأت أعرفها عن الجسد الذي ألبسه، كان اسمه حسين، مات كبيرًا في السبعين من عمره، رأى الأولاد والأحفاد وانتهى حاله، يعني صرتُ جدًا بهذه السرعة، مجرد أن لف جسده بي صرتُ أنا الجدّ، يا لسعادتي! وهكذا بدأت أقبل الأحفاد والأبناء، ثم ودّعني الجميع وتركوني في الحفرة معه، كان عليهم أن يتركوا نافذة في الأعلى لأتنفس، لكنني اكتشفت أنه يجب أن أموت أنا الآخر مع الميت، تذكرت حلمي بأن أزور رفاقي الذين كانوا يقفون فوقي على الرّف، وأنني سأصبح حرًا، سأصير جسدًا أبيض كبير، لكنني انتهيت هنا، ومع أحلامي أصبحت أضرب الرمل بقوة فأزعجت الميت، قال لي..

- اهدأ ونم، تنام عليك حيطة

- أنا اختنق، يجب أن أخرج، هل هناك حائط أكبر من هذا لينام عليّ

- وفصيح ما شاء الله عليك

تركته لبلبلته واستمر ضربي للرمل، مع الوقت استجاب لي وأخذ يضرب معي، حفرنا بشكلٍ رائع، كان عليه أن يلتصق بي جيدًا لنترك مساحة تحتنا نرمي الرمل الرطب فوقنا فيه، استمر الحفر معنا حوالي يومين، كان متعبًا وخانقًا، لم أكن أتصور في حياتي أنني سأعيش هذا الاختناق قط، لكننا نجحنا أخيرًا وخرجنا، كان الوقت ظهرًا، المقبرة خالية، الأموات اليوم أقل من يوم مجيئي، رأينا حفّار القبور يقترب من قبرنا فاختفينا خلف القبور الاخرى، القبور الرفيقة لنا الان، نظر جيدًا وبدأ يحفر، ثم جاؤوا بكفنٍ جديد يلبس ميت، كان نظيفًا أبيض جميل، تمنيت لو أنه أنا، لكنني عدلت عن الفكرة بسرعة، أنا كنت مثله، عافرت واختنقت لأصير حرًا، هل أتمنى الآن العودة؟ ما أغباني!

انسحب الناس بعد ذلك وبقيت مع الميت، نظر لي باشمئزاز، قلت له..

-أيها الغبي، أنا من أخرجتك..

-لا أنا..

لكن مجادلة أحمق مثله لم تنفعني الآن، أريد أن أخرج جاري الكفن بسرعة قبل أن يختنق، طلبت أن أذهب لأخرجه بسرعة فضربني على رأسي، لأنه يريد أن يخرج من المقبرة بسرعة أكبر من سرعتي في إخراج جاري من حفرته، بدأ نزاعنا هذا حتى وجدنا أنفسنا على باب المقبرة، وجد ملابس أخرى ورماني، ومباشرة جئت إلى القبور الجديدة قبل أن تختنق الأكفان أحفر فأخرج كفن، أحفر فأجد نصف ممزق، أحفر فأجد رفيقي الذي كان فوقي يبكي، أحفر.. احفر.. أحفر.. أخرجت أكثر من عشر أكفان، منهم من شتمني لأنني أيقظته من غفوته، منهم من بصق بوجهي لأنه سعيد بحياته وجئت انكسها، منهم من أخذته معانقًا لأخرجه من وضعه المنتحب، منهم وجدته ميتًا فبكيت، منهم حفرت الحفرة فكانت آخر أنفاسه فبكيت، منهم منهم...

من خرج راح يبحث عن مكانٍ يغتسل به وأنا أيها الحارس أنتظر مجيء ميت جديد لأهرب إلى الكفن الجديد وأخرجه، أنا حارس مثلك لكن الفرق بيننا أنك تعيد الأموات لقبورهم إذا تمردوا وأرادوا القليل من الحرية وأنني أخرجهم ليجدوا حريتهم، هل ستجدني مذنبًا بعد كل ما أخبرتك إياه وتدفنني؟ نعم أنا خفيف الآن، أخف من كيسٍ معبأ بالفراغ، ومرعوب جدًا من الاختفاء لكنني أريد ان أعيش، أريد شكلًا جديدًا، لا اريد لوني الأبيض، انظر أنا لم أذهب لأغتسل، بقيت على حالي الطيني وزدت الطين طينًا، فهل ستتركني أتم عملي حتى نهايته؟ أمسكني الحارس من كتفي وبدأ يرفسني بقوة، بعد كل ما اخبرته إياه انتهيت في قبر جديد لي وحدي دون جسد، هذه المرة أنا وحيد جدًا خائف، لا بل مرعوب من كل شيء، هل عليّ طرق الطين لأخبر الحارس أنني ما زلت أتنفس؟ هل عليّ ان أزيح بعض التراب عن وجهي وأبدأ بالمحاولة من جديد ثم أهرب مهرولًا من الحارس والناس خارج المقبرة مختبئًا كما فعل الجسد الميت المخلوع مني؟ أنا الآن حائر للغاية، ربما سأترك كل شيء وأبقى أنتظر انتهاء حيرتي ورعبي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخبز عنيد يا أمي

لم خذلتني؟