08-ديسمبر-2016

لقطة من الفيلم

"أنا مواطن ولي حقوق" عند هذه العبارة انتهت حياة المواطن البريطاني الخمسيني دانييل بلايك، فقد وصل به التعب حدّ السقوط صامتًا وتوقف قلبه، في مجتمع أهم ما يطلق عليه أنه "بيروقراطي" همشه وهمش غيره من المواطنين عبر إجبارهم بالتزام سلسلة لا نهاية لها من المعاملات المكتبية التي تخلف أوراقًا كثيرةً لا لزوم لها، هذا النظام الاجتماعي الذي يضمن سلطة الحكومة على عملك وعطالتك يفرض عليك ممارسات محددة عليك اتباعها لتعيش حتى لو كنت لا تعرف عنها شيئًا.

يأخذ المخرج لوتش فيلمه لأقصى صور الاحتجاج، فيكتب بطله اعتراضه على جدار المبنى الحكومي الذي أصبح يمثل كل الإحباط بالنسبة له

هذا تمامًا وغيره من الإهمال أوصل مريض القلب الذي مُنِع من مزاولة أي عمل إلى الوفاة، عند هذه الحدود يقف الفيلم الجديد للمخرج البريطاني كين لوتش، الذي تراجع عن قراره بإخراج الأفلام وقدم لنا عملًا سينمائيًا اجتماعيًا بامتياز، حاله كحال أفلام لوتش كلها، والتي تميزت بحفرها في بواطن المشكلات والأزمات السياسية والاجتماعية في بريطانيا ووضعها ضمن السياق التاريخي للذاكرة السينمائية البريطانية والعالمية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الخادمة".. جنس وعنف، وأشياء أخرى

وكذلك قادنا "أنا دانييل بلايك" إلى السعفة الذهبية التي لم تعدّ غريبة عن أفلام لوتش، فقد حصل عليها مرة من قبل، عن فيلم "الرياح التي تهز الشعير" عام 2006 وترشح لها مرة عن فيلم "اسمي جو" عام 1998، عندما حاز الممثل بيتر مولان على جائزة أفضل ممثل.

نتنبأ بأن هناك مقابلة رسمية أو شيء من هذا القبيل بين شخصين، لا نعرف بالتحديد ماهية المقابلة لاستهجانٍ متكرر من قبل بلايك الذي يحاول الإجابة على أسئلة الموظفة الطبية، والتي بدورها تُجيد أن تكون منتونية طوال المشهد. فتطرح عليه أسئلة عن صحته، هل يستطيع المشي مسافة طويلة هل يستطيع رفع يديه، هذا لا علاقة له بقدرته على متابعة العمل أم لا، هذا كالكثير من الإجراءات الشكلية المفروضة على الجميع دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية حالة كل فرد، يقضي بلايك على إثرها أغلب وقته الذي من المفترض أن يكون للراحة، فيبدو مشغولًا بالانتظار على الهاتف طوال محاولته الاتصال بمكتب العمل دون رد، وصولًا لمرحلة ملأ الملفات وكتابة المعلومات. كل هذا أودى به لبيع أثاث شقته حتى يستطيع إكمال حياته.

يبدو أن تعب انتظاره وتحمل عناء كبير عليه سينتج شيئًا ما، في حقيقة الأمر كل هذا بهدف الحصول على مساعدات بسيطة من الدولة مهددة دائمًا بالانقطاع إذا لم تكن تجيد تعبئة الاستمارات الإلكترونية وصياغة السيرة الذاتية بإحكام. هذا الظلم الاجتماعي غير المبرر الذي يتعرض له بعض المواطنين، وهذه هي الخيوط الواقعية التي يصوغها كين لوتش غاضبًا ومدافعًا عن المظلومين في بلده، وعن كل من تركته القوننة الاجتماعية الحداثية دون ضمان اجتماعي ودون أمان. هي صرخة غاضبة كما صرخات لوتش السابقة التي يندد من خلالها بالممارسات الجائرة بحق المواطنين.
 

تتداخل مع حكاية بلايك حكاية كاتي أم شابة عاطلة عن العمل مع طفلين، يلتقيان لأنهما يقفان على ذات الحدّ من الأذى الاجتماعي الذي يلحقه المجتمع وقوانينه بهم. وكنموذجين يستحقان البحث والتساؤل حول مصيرهما، أولهما كمريض يبحث عن الضمان الاجتماعي وثانيًا كأم تريد لطفليها ألاّ يجوعا.

يملأ الطرفان حيزًا كبيرًا من حياة بعضهما الآخر، ريثما يتحولان إلى ضرورة ثابتة تؤثر الأولى بحياة الثانية. لا ينتج كلًا منهما حلًا للآخر، ولكنهما يكملان الحكاية الاجتماعية البريطانية. فتقف كاتي على الجانب الآخر من القسوة والتهميش، غالبًا لا تجد ما تطعم أولادها. فتذهب بمحاولاتها لآخر نفس لديها كأم مسؤولة ومربية. لذلك تلجأ للسرقة مرة كي تغطي احتياجاتها، ومرة أخرى تطلب مساعدة من شخص يوصلها ببيت للدعارة.

هذا الفضاء الآخر الذي تختاره يفسح مجالًا لوجود بلايك كالآخر الذكر بأبعاده الأبويّة في خيارات كاتي ويوميات الطفلين، لندخل نحن كطرف مشاهد ومحاكم في تضاعيف هذا العالم البيروقراطي الذي يتنامى بثقله فوق حياتهما وعلى حساب يومياتهم ومستقبلهم.

اقرأ/ي أيضًا: الجفاء بين الكاميرا وبيروت القديمة

يأخذ لوتش فيلمه لأقصى صور الاحتجاج، فيكتب بلايك اعتراضه على الجدار الخارجي للمبنى الحكومي الذي أصبح يمثل كل الإحباط بالنسبة له، يرمي بمشكلته في الشارع وأمام المارة فسرعان ما يتجمهرون حوله. هذا المكان الأمثل لإيجاد الحلول "الشارع وأمام أعين الجميع" كدعوة صريحة بضرورة الاعتراض والرفض لسلطة المكاتب وقوانينها.

حملة "نحن دانييل بليك" التي قام بها ناشطون بريطانيون جاءت مرادفة للصرخة الدرامية التي أخذت شكلها الأكثر واقعية في فيلم سينمائي

لا يخرج بلايك من هذه المشقات سالمًا، حيث تؤدي به لنهاية محبطة وحزينة، أمّا كاتي فلها أن تتابع صرخة كين لوتش وتطالب بحقوقها كدانييل بلايك آخر.

حملة "نحن دانييل بليك" التي قام بها ناشطون بريطانيون جاءت مرادفة للصرخة الدرامية التي أخذت شكلها الأكثر واقعية في فيلم سينمائي، لنجد أن عددًا لا يستهان به من البريطانيين يقفون أمام أبواب مكتب العمل، والكثير منهم كبلايك لايجيدون استخدام الكمبيوتر، وليسوا على درايّة بأسلوب كتابة السيرة الذاتية، الأمران اللذان أصبحا يحددان أهمية وفاعلية الفرد في المجتمعات المتطورة، فتحدد بمقاسات وخبرات ضرورية للحصول على الحقوق.

كين لوتش اسم براق في تاريخ وحاضر السينما البريطانية التي ترسم الواقع على الشاشة بكل ما فيه من قبح، هي الصورة اللوتشية التي تربط بين أناس بسطاء يسعون باتجاه ما مطالبين بحقوقهم اجتماعية كانت أم سياسية. هو الغضب اللوتشي أيضًا الذي يمتلئ به قلبك وعيناك، بأن العالم ما زال له نفسٌ للمقاومة وقول كلمة لا.

اقرأ/ي أيضًا:
ألم وانتقام ودعوة للتصالح مع فيلم "دموع إبليس"
دليلك السينمائي لفهم أمريكا في عهد دونالد ترامب