20-أكتوبر-2015

غسان نعنع/ سوريا

إلــى روح طفلتي نزوكا

1

كأن أقتعدَ الكرسيَّ العتيق وأنا أقرضُ أظافري من الخوف، أو أنْ أرتعدَ من الربيعِ ومؤشِّراتهْ، أو على سبيل العادَة أن أتزوَّجَ إحداهنّ وأنا لا زلتُ طفلًا أحبو!!
كُلُّ هذا العالَم يبتسِم لي ولا أجِد المتعةَ إلاّ في ابتسامَةٍ يتيمة ألمحُهَا من بعيد، ليست نظَّاراتي الطبيَّة الدالَّةَ على نقصٍ ما في مقياسِ الرؤيَة بمقدورها أن تقرِّبَ تلكَ الابتسامة، غيرَ أَنَّني أشعرهُا وكأنَّني ألْمَسُهَا الآنَ باعتياديَّة، ليسَ ذلكَ وَهمًَا أنثرهُ كيفمَا شاءَ الولَهُ المغبَرّْ، لا، إنَّهَا الأحلامُ المباغِتَةُ قبيلَ ليلةٍ أمضيتُهَا مع زجاجاتٍ من البيرة الشقراءْ ومن ثمّ  كانَ عليَّ أنْ أنسى ربطَ شَعريْ وأرتمي بينَ أحضانِ الصَّمتْ.

2

كأن تزورَني عمّتي التي لمَ أرَهَا منذ قَرَابَة القَرن (لا تستغربوا هَذا هو إحساسي بالضَّبطْ)، وكأنَّها تدمعُ لأنَّني أُشبهُ والدي الرَّاحِل في لَمعَة عينه وغضبهِ السَّريع!!
أقولُ في نفسي: ما هَذهِ الغلاظَةُ الآن، لديَ عملٌ ما سَأقومُ به، لا تكرَهُني عمَّتي ولكن تدفعُني جانِبًا وكأنَّني كومَةُ قمامَة أو بَقايَا حَشَرَةٍ دُعِسَت بحذاءٍ عسكريّ دوُنَمَا رَحمَة!!

3

وقتٌ على قارعَة الطريقْ يلمّ شُتاتَ المُبعَدين عن الأوطان، لا يمكن التكهَّنُ بهذا الوقتْ، هذا الكائِنُ القاسي في أغلبِ الأزمان، عَودٌ على بِدء منذُ التواريخِ الأولى للشُتاتِ العجيب، الذي يلفُّ الأرضَ –أرضُنَا– بالسوادِ اللامع من على بعدٍ كئيب.

"لا بدّ للنافَذَةِ أن تضيء يومًا ما"، هكذا أتفوَّهُ لطفلَة النزوحِ في صورَةٍ مُلتَقَطَةٍ على عُجالَة وليسَ لأحدٍ أن يكتبَ عن هذا الوجهِ في الصُّورَةِ، وجوهُ السورييّن فريسَةُ الفراغ وعدَسَات الهواة، ليسَ كلّ ما أفكَّرُ بهِ الآن وجَعًا، إنَّهُ الوجهُ الذي أُبصرُهُ في المنام كلَّ ليلَةٍ باردَة، إنَّهُ ذاتُ الوجهْ الذي ترتديهِ والدتي كلّ صباحٍ مُفعَمٍ بالغبار المترَعِ بالذكرى والغيابْ، أصواتُ المارَة في مساءِ المدينَةِ التي تمدّ يدها للخلاص دونَما فائدَة أسمعها في فؤادي كلَّ ليلَةٍ إذ أتناسَى موجَزَ الأخبار ومن ثمَّ التفاصيلَ الغارِقَةَ في الدمّْ، لا يمكنني فعل شيء، أو ربمَّا فقَط أفكِّر وأتخيَّل أنَّني لو أستطيعُ بكبسةِ زرٍّ ما أن أغيَّر وُجهَة التاريخِ أو أن أُعيدَ اليتامى إلى أحضان أمَّهاتِهِم، تَخونني الأصابعُ على الدّوام، أستمرُّ في التخيُّلِ غارِقَاً في روحي الذابِلَة، أقولُ لنفسيَ هَمسًا: كلُّ شيءٍ هَباءْ، كلُّ شيءٍ يغرَقُ وأنا أتفرُّجُ على الشاشَةِ المُتعَبَة من صراخِ الشُهداءِ.

أقولُ لابنتي: ثمَّة أمَلٌ ما في الطريق سَينتشِلُنا من هذا الخوفْ، ثمَّةَ ما هوَ مُفرِحٌ يدنو ليبتعدَ كما حُلُمْ، أنا متأكِّدْ.

4

مَعْ أَدنَى حَرَكَةٍ لِلبَابِ وَصَوتهْ أتوهُ في الخَيَال، إِذْ أبدُو كَالمَجْنون يَمْضي دُونمَا خِشْيَةٍ مِنَ الغَرَقِ في التَفَاصيل اليَوميِّةِ لِلنَّاسِ حَولي، إنَّهَا السَّابِعَة صباحًا، كالمعْتاد أفيقُ عَلى صَوت الذِّكْرَى المُرْتَفِعْ، في النَّومِ أبدو لَطيفًا كَمَا في الوَاقَع، لَكِن عَلَى دَرَجَةٍ أَشَدّْ، تُحَدّثُني قَامَتكِ وَأتَخَفَّفُ من أوزاري المُثْقَلَة، "ليسَت الصورةُ التي في المرآةِ لي، إنَّها رسمٌ غابرٌ للوجع الذي بداخلي" هَكَذا أُحَدِّثُ نفسي وصورتكِ في البال تَسبح كطفلٍ، تعَالَي نضحَك يا طفلَة قلبي ، الكونُ لن يتوقَّفَ عن الإساءَة، كلانا لا يملكُ تذكرةَ العبورِ إلى الطرف الآخر من الحياة.

5

عن الغياب أتحدَّث،
عن الموتى أتحدَّث،
عن شَعري الذي اشتاقَ لأناملكِ وقلبي الذي يضحكُ لمرأى ابتسامتكْ،
عن كلِّ شيءٍ أتحدَّث، عن الغابَةِ التي في عينيكِ وعن الهاربينَ من جحيمِ التذكّرْ.
هل يتوجَّبُ عليَّ أن أبكي حتى يكونَ الغيابُ خفيفاً كريشة؟
هل يتوجَّبُ عَليَّ أن أزورَكِ في هذا المطر حتَى يكونَ الوقتُ رحيمًا؟
لا أملكُ قلبيَ الآن.   
أملكُ الوقتَ الكافي لأتَذَكّرَ وجهَكِ الشاحِبَ وبرودةِ الأنامِل الصغيرة..
سيكونَ عليّ من الآن جمعُ الأوقاتِ البعيدة التي كنَّا نبتسِم فيها للشوارع وأبوابَ المحلَّات، أنْ ألُمَ الأزهَارَ التي ذَبُلَت في غيابِكِ الأسوَد وشمَ رائحَتِك المنتَشرَة في أغلب ثنايا روحي الكَهلَةِ.

6

ربمّا عَليَّ أن أقولَ الآنَ وأنا أصْرُخْ : 
قِفي، لا تُغَادِري وأنتِ غاضِبَة، تَوَقَّفي، اشتُمي وَمن ثُمّ غَادِريْ، لا تَدَعي روحي مُعَلَّقَةً أيَّتُهَا الصغيرة، يا صَغيرةَ قَلبي.