19-يناير-2024
لوحة لـ سليمان منصور/ فلسطين

لوحة لـ سليمان منصور/ فلسطين

لدى كلّ الشعوب أعياد وطنية يفخرون بها، ذكرى نصر أو تأسيس دولة، ربّما مولد قائد عظيم، أو توقيع دستور جديد يحمي المجتمع؛ أو تاريخ انتهاء حرب. نحن ـ الفلسطينيين ـ لدينا الكثير من التواريخ والمناسبات لكنّها ليست أعيادًا، ربّما لا يعرف الفلسطينيون من الأعياد سوى تلك المناسبات الدينية عيدي الفطر والأضحى والمولد النبوي وشهر رمضان وعيدي الميلاد والفصح، وبعض مناسبات فرعية أخرى كالإسراء والمعراج أو عاشوراء أو أحد الشعانين والجمعة العظيمة.

لدينا تواريخ محفورة تكاد تلتهم أيّام السنة كلّها، هي تواريخ مجازر وهزائم ونكبات حلّت بشعبنا، نظلّ نتذكّرها ونستعيد تفاصيلها، تظلّ حيّة فينا، تحكّ ذاكرتنا وتشحذها لتنتقل من جيل فلسطيني إلى آخر بكلّ تفاصيلها. مهلًا... كتبت هزائم ونكبات ومجازر، نعم هي كذلك لكنّها في حقيقة الأمر مناسبات بطولات عظيمة اجترحها أبناء شعبنا على مدى نضاله الطويل.

لنتذكّر قليلًا: هبّة البراق في آب/أغسطس عام 1929، حيث عمّت المظاهرات والإضرابات جميع مدن فلسطين واندلعت مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والسلطات البريطانية، وكان بعدها أن تمّ إعدام محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي. يتذكّر الفلسطينيون هذا التاريخ محمّلين بالفخر فهو بداية تبلور الوعي الوطني الفلسطيني وإدراك تواطؤ حكومة الانتداب البريطانية مع الصهاينة.

نفهم جيّدًا طبيعة هذا الصراع مع الصهيونية، إنّه صراع وجود، هم يفهمونه كذلك أيضًا، يقتلون ويهدمون مستخدمين أحدث الأسلحة الأميركية والغربية، ونردّ بأبسط الأسلحة المصنّعة محليًّا، فنوجعهم ونُربكهم، ونبقى في أرضنا

وعلى سبيل المثال نتذكّر يوم الأرض 30 آذار/مارس 1976 حيث انتفض فلسطينيو مدن الجليل والمثلّث لمواجهة قرارات مصادرة أراضٍ عربية، وتخلّد هذا اليوم بوصفه يوم التمسّك بالأرض ونسف فكرة أنّ من بقوا في أراضي 1948 ما عادوا فلسطينيين، وأكد على وحدة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده.

وأيضًا تحضر مجزرة تلّ الزعتر، شهر آب/أغسطس عام 1976، حيث حاصرت القوات الانعزالية اللبنانية، مدعومة بوحدات مدرّعة من الجيش السوري، مخيّم تل الزعتر الفلسطيني في شرق بيروت. كان حصارًا مريرًا قاسيًا، مات خلاله الكثير من سكان المخيّم جوعًا قبل أن يتمّ اقتحامه وقتل سكّانه، يتذكّر الفلسطينيون هذه المناسبة بوصفها محطّة إدراك ضرورة الحفاظ على الهويّة الوطنية الفلسطينية واستقلال القرار الوطنيّ الفلسطينيّ.

أما أواسط أيلول/سبتمبر عام 1982، حيث تكرّر سيناريو تلّ الزعتر ولكن هذه المرّة كان الدعم من وحدات الجيش الصهيوني، حيث فتكت القوات الانعزالية اللبنانية بأكثر من أربعة آلاف من سكّان مخيّمي صبرا وشاتيلا في بيروت، نتذكّر هذه المجزرة كدرسٍ يقودنا إلى عدم الثقة بالقوى الدولية والعربية التي تعهّدت بحماية سكّان المخيّمين بعد خروج مقاتلي الثورة الفلسطينية من بيروت.

كانت تلك أمثلة عن المناسبات و"الأعياد" الفلسطينية، واليوم يُضاف تاريخ جديد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، انهمرت آلاف الصواريخ على المستوطنات والمدن الصهيونية، فيما اقتحم المقاتلون الفلسطينيون معسكرًا للجيش الصهيوني، وتمّ قصّ الشريط الشائك وهدم جزء من الجدار العازل بين غزّة والأراضي الفلسطينية فاندفع المئات من الفلسطينيين "عائدين" إلى أرضهم التاريخيّة ورجعوا إلى غزّة مصطحبين أسرى صهاينة. قامت العصابة الصهيونية بردّ يلائم تمامًا طبيعتها بوصفها عصابة إرهابية عنصرية، فبدأت بقصف قطاع غزّة مستهدفةً إيقاع أكبر عدد من المدنيين وهدم ما يُمكن من الأبنية والأحياء، لقد تجاوز عدد الشهداء الأربعة والعشرين ألفًا، وهُدم أكثر من 70% من أحياء القطاع.

كيف سيتذكّر الفلسطينيون هذا اليوم؟ إنّه نموذج عن يوم التحرير، عبر المئات إلى أرض فلسطين التاريخية وانهارت دفاعات الصهاينة، حتّى أنّ طائراتهم ودباباتهم قصفت مواطنيهم. نفهم جيّدًا طبيعة هذا الصراع مع الصهيونية، إنّه صراع وجود، هم يفهمونه كذلك أيضًا، يقتلون ويهدمون مستخدمين أحدث الأسلحة الأميركية والغربية، ونردّ بأبسط الأسلحة المصنّعة محليًّا، فنوجعهم ونُربكهم، ونبقى في أرضنا، هو إدراك بسيط جدًّا لدى الفلسطينيين: هذه أرضنا، نعيش فيها ونموت فيها.