10-مايو-2018

غيل سكوت - هيرون في مونتريكس للجاز الحي (Getty)

"دعوني ممدًا بجوار الجدول/ على بعد أميال من كل شيء/ يا أنهار آبائي/ هلا رددتني إلى البيت؟"   "غيل سكوت - هيرون"

ينظر إلى الثقافة وفق مدارس عدة على أنها تكوينية، أو توليدية بالترجمة المغاربية. لكن قليلًا ما يتم التصالح مع فكرة أن كل ما يمكن أن يقال قد قيل حقًا، بلهجة أو سواها، بلغة أو أخرى، بشتيمة أو ترنيمة، وما تبقى هو إعادة إنتاج وتوليف، إبداعي مستلطف في حين، وفج قاحل في أحايين.

أدمن غيل سكوت - هيرون الانطلاق الحر موسيقيًا وشعريًا دون مبررات أو توخ لعته الشهرة أو السمعة ولعنتهما

هذا أيضًا ما تساعد في قوله ملامسة عمق امتداد موجات راسخة عدة في الموسيقى والتشكيل وسواهما من الألوان. وهذا تمامًا ما توحي به صدمة "السوشالجية" عبر منصات الإعلام الاجتماعي ومنابحها  أمام هول "غامبينو الطفولي" الشفاف والهجين موسيقيًا "هذه أمريكا". مصادفة ربما كل هذا الإيقاع في أيار، شهر لا يتوسط العام إلا بأشباحه العملاقة، ليس أول الحاضرين عبره كارل ماركس، ولا آخر الخارجين من خلاله غيل سكوت - هيرون "1949-27 أيار/مايو 2011".

اقرأ/ي أيضًا: فن الشارع.. سؤال الهيمنة المضادة

اعتاد غيل سكوت - هيرون التواضع غير الملفق طوال الـ62 عامًا التي كانت من نصيبه أن يدخل اختبار المرة الواحدة غير المكررة مع الكوكب المأهول. مكرسًا هذا الاعتياد أمام عملقة سمعته التي لم يجهد في ترويجها ولا في طرق العتبات بحثًا عن اعتراف بها. فلم يوصف فقط بالأب الروحي للراب، على اتساعه، ولا بالوالد الشرعي للهيب هوب، بل تجاوزت أهميته الموسيقية والشعرية ما يمكن تخصيصه واحتكاره في لون أو مجموعة ألوان من "الكار" الموسيقي.

أدمن غيل سكوت - هيرون الانطلاق الحر موسيقيًا وشعريًا دون مبررات أو توخ لعته الشهرة أو السمعة، طيبة أو رديئة. صنع كوكتيلات باهرة استندت إلى التوليد في الشعر الشفاهي رفقة ضربات إيقاعية، شيطانية أكثر منها قاسية. لم يغفل تلوينات عواء الجاز ولا نحيب السول والبلوز.

غيل سكوت هيرون

الحيرة كبيرة في إجابة من هو غيل سكوت - هيرون؟ من هذا الشيطان الشعري الموسيقي الذي ينشد عالمًا ملائكيًا دون أن يأسف على عدم العثور عليه؟ من هذا النبي الذي خاطب الرسل؟ شاعر وقاص وروائي، صوت ثوري من أحجار زاوية صوت الأفروأمريكية، بل صوتها الأجل. رادود لطام على الأرض التي عرف أنها ستفشل أمام كل اختبار اندماج ومساواة!

ما حاول غيل سكوت - هيرون قوله طويلًا، بحضور البلوز والجاز رفقة الفانك والسخرية من الكاونتري مجتمعة كلها في خلفية الشريط، قصص من القلب كانت. قلب لم يرث العبودية بقدر ما تلقاها حالة وعي، وبقدر ما اشتغل ليخلص أمة من قذاراتها بالشعر. هذا تمامًا ما حاول غيل سكوت - هيرون العبث به وتخريبه طوال عقد السبعينيات، القذارة. جابه القذارة بوعي مفضوح في ألبوماته الطاغية "أجزاء من الكائن" و"الشتاء في أمريكا" و"وأحاديث جانبية في العام 125 ولينوكس".

لم يغفل غيل سكوت - هيرون تلوينات عواء الجاز ولا همهمة السول ونحيب البلوز

ربما للأصول حكاية في حرب غيل سكوت - هيرون الهجينة على الطهورية العرقية. وللاستعمار ومساراته محطة في وعي الطفل لوالد جمايكي أرسل بعيدًا إلى اسكتلندا لمهاراته في كرة القدم ليصبح كيلتيًا بمجرد شحطة  قلم بيروقراطية الاستعمار. كما ربته جدته بعدما ترك وحيدًا إثر طلاق والديه في أواسط مقاطعة جاكسون في ولاية تينيسي ليحضر كمثال "أليف" على التعايش والاندماج إلى مدرسة بيضاء كان فيها أسودًا من أصل ثلاثة سود بين عشرات التلامذة الأنجلوساكسون. ما زرع الخوف من العنصرية فيه عميقًا مرة وللأبد، وفق تعبيره. وكأن العنصرية قدره، تلقيها والرد عليها، فبعد تينيسي كانت "خمارة" وعي غيل سكوت - هيرون الشاب في برونكس – نيويورك. حيثما للعنصرية نكهة وإيقاع مغايران.

اقرأ/ي أيضًا: هانز زيمر: في عالم الأحلام دائمًا

وفي حين عبر "غيلبيرت سكوت" سبعينات القرن العشرين بألق وتفتح، لم يقو على كبت أنفاسه طويلًا أمام كبت الثمانينات وعفونتها. خنقته الثمانينات، ومنحته الشيب، وفق نكتته. بل منحته بياضًا مغايرًا للشيب إلى حد ما، البياض العابر من كولومبيا رغم أنف رونالد ريغان. وكان الكوكائين ورحلة تكرار السجن، وتكرار ضرب قوة المثال بالهيب هوب والراب والإيقاع وتحويل مكتسبات الاتجار التضامني بالمخدر اللاتيني إلى استديوهات التسجيل. لكنه نجا نحو التسعينيات الجميلة دون سبب، وبإنتاج تسعينياتي مكثف أسلوبيًا في "أرواح" و"رسالة إلى الرسول" التي شكلت مانفيستو "رابرية" مطلع القرن الـ21.  ليعتكف طويلًا مستمعًا ومترنمًا بالموجات التي أوقدها بشعره وإيقاعه، وعواء الأورغ الذي اختطفه من حيلة الخلاص السماوي بالقرب من محراب رب العبيد.

صنع غيل سكوت - هيرون كوكتيلات باهرة استندت إلى التوليد في الشعر الشفاهي رفقة ضربات إيقاعية، شيطانية أكثر منها قاسية 

لكن الرسول لم يسمع الرسالة، فاستغل غيل سكوت - هيرون آخر سنواته بثلاثية شاهقة، فكك فيها فشل الفشل العنصري والفشل في تفكيكه، "أنا جديد هنا" و"عتمتي الباهرة" و"من سينجو في أمريكا؟". كما غادر هيرون الكوكب وسط سوء فهم شاسع معه، أو مع سكانه للدقة، فلم يكن صاحب "الثورة لن تتلفز" راضيًا عن ترجمة كلماته وتحويرها إلى إطارات العنف بالضرورة، متسائلًا بوجع "كيف يمكن أن تكون عنفيًا إذا قلت للناس أن الثورة لن تجعل منكم خارقي الجمال، ولن تفقدوا الوزن أيضًا بمجرد الحديث عن الثورة!". ومع كل تفانيه الإيقاعي والشعري كان يهمهم بنظريته أن ليس هذا ما يهم، لا الكلمات ولا وزنها، بل هي النغمة، الحس الصوتي الذي  تنتقل عبره إلى الناس، هذا ما يعني كل شيء، وقد لا يعني شيء أيضًا.

شاعت في ربيع 2010 إشاعة مفادها أن غيل سكوت - هيرون سيأتي للعرض في تل أبيب. عجيب أن يكون لكل هذه الثورة يد في الاستعمار والفصل العنصري في جغرافية أخرى. وقعت على نسخة من  صحيفة هآرتس/الأرض العبرية، ليبرالية صهيونية، في ذات أسبوع الإشاعة وقد أوردت تفاصيلًا أوفى عن طبيعة الدعوى التي وجهتها سينماتيك وتياترو مشهورة في جادة روتشيلد على التقاطع مع شارع اللنبي في تل أبيب. تطوعت حينها إحدى الصديقات بكتابة رسالة بليغة بإنجليزية فصيحة، ورثتها من ناحية أمها، تقول لغيل سكوت - هيرون فيها أن هذا فعل شائن بحق. لم يطل مكتب الوكيل الفني لغيل سكوت هيرون آنذاك في نقل رد "العجوز المتمرد" التالي إلينا بعد أقل من مضي يوم "ومن قال لكم يا أصدقائي الفلسطينيين وأبناء جلدتي أنني أتشرف حتى بالرد على مثل هذا العرض من مثل هؤلاء المعاتيه القتلة؟!". هنا يتضح كيف للكلمات والإيقاعات ونغمتها ووزنها ومسافة الصمت بينها كلها، أن تكون على مسافة من الحياة والموت، تهاجمهما وتعاشرهما بكل تواضع وألفة، شاخصة كأشجار إيقاعية بثمار تأبى الرحيل.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الموسيقى الأندلسية.. وقت مع أحفاد زرياب

شوقي بوزيد يصرخ.. ماما أفريقيا