02-يوليو-2019

فانلي بورك/ جامايكا - بريطانيا

في المرحلة ما بعد الاستعمارية (ما بعد الكولونيالية، وفق التعبير الأكثر شيوعًا) قام العديد من مفكري الغرب وفلاسفته بإجراء نقد حاد للمركزية الغربية وتوصلوا إلى أنّ فكرة الغرب عن نفسه بوصفه مركز الإشعاع، ومركز الحضارة، والمركز المنتج للإبداع، إلخ... هي فكرة واهمة، وتعسفية، واستعلائية، وناتجة عن مرحلة استعمارية غربية طويلة الأمد وفائضة القوة. إلا أن هذه المراجعة بحد ذاتها كانت تكريسًا للمركزية الغربية التي انتقدتها، مع الفرق أن الأولى كانت لا تقر بالثقافات الأخرى إلا بوصفها دونًا، وأقل رتبة، وأحيانًا بوصفها محل فرجة مثل السيرك، كالثقافة الشرقية والأفريقية... أما الثانية فقد أقرت بالثقافات الأخرى لكن بوصفها مجرد تنوع ثقافي، وحقل يتيح تفسير الاختلاف الثقافي بين الغرب من جهة، وبين الثقافات الأخرى من جهة أخرى. فتم بناء معبد ثقافي غربي آخر محل المعبد الذي أرادوا هدمه.

فكرة الغرب عن نفسه بوصفه مركز الإشعاع والحضارة.. هي فكرة واهمة، وتعسفية، واستعلائية

تصدع المركزية الغربية، حقيقة، نجم عن اقتحام الفضاء الثقافي الغربي من قبل مهاجرين ولاجئين عاشوا أو درسوا وعاينو أثر الاستعمار الغربي لبلدانهم ولبلدان أخرى أمثال: إدوارد سعيد، غياتري سبيفاك، هومي بابا، وتوني موريسون، ف. س. نايبول، سلمان رشدي، نادين غوردايمر وآخرون كثر...  هؤلاء الذي أتوا الغرب محملين بثقافة محلية راسخة من جهة، وبثقافة الغرب كمحل لجوء وهجرة من جانب آخر، أعادوا صياغة الأسئلة التي وضعها الغرب إمعانًا في مركزيته وشعوره بالتفوق كأسئلة الحقوق والمدنية والموقع الطبقي والعرق وأسئلة الحداثة... وبذلك خلخلوا الثقافة الغربية (البيضاء) عبر اجتراح ثقافة ملونة، ثقافة كونية مكانها الذي تنشأ فيه وتنمو هو اللا مكان، أو خارج المكان، في تلك المساحة الهجينة حيث تلتقي فيها ثقافات المهاجرين مع الثقافة الغربية، في تلك المساحة البينية: بين الثقافات، بين الأفكار، بين الحضارات، بين القوميات.

اقرأ/ي أيضًا: اضمحلال "ثقافة الآخر"

من هذه المساحات البينية ينطلق متشظيًا سؤال الثقافة، السؤال الذي لم يكن من الممكن أن يولد إلا عبر اللسان المهاجر، اللسان اللاجئ الذي جعل الشك بالنقاء الثقافي يقينيًا، وجعل الفكرة برمتها موضع سخرية بالغة. هذه الثقافة توجب على "المتروبول الغربي (المركز الغربي) أن يواجه تاريخه ما بعد الكولونيالي كما يرويه ذلك الدفق من المهاجرين واللاجئين"، كما يعبّر هومي بابا الذي كان قد اقترح "فضاء ثالثًا صالحًا لسكنى العالم". هذه الفضاء الثالث هو الذي يقع بين الثقافات المحلية والثقافة الغربية من جانب، ومن جانب آخر بين الثقافات المحلية ذاتها للشعوب، ذلك أن المهاجرين واللاجئين ليسوا كتلة بشرية ثابتة لا ديموغرافيًا ولا جغرافيًا، بل هم دائمو التغير والتنقل الأمر الذي يعني أن لا مكان/ لا موقع ثابتًا لهم، وبالتالي فإن موقع الثقافة الذي يؤسسون له، وينطلقون منه هو اللا موقع/ أو خارج الموقع، هذا الـ"خارج الموقع" هو الموقع الثقافي الملون المؤسس من قبل المهاجرين واللاجئين، وهو الفضاء الثالث الذي أشار إليه هومي بابا، المفكر الهندي والأستاذ في جامعة شيكاغو.

توجّب على الغرب أن يقرأ نفسه لا من خلال نفسه، بل من خلال الشعوب التي استعمرها، وتوجب عليه أيضًا أن يواجه تاريخه عبر التاريخ الذي يكتبه، ليس هو عن نفسه، بل الذي يكتبه أولئك اللاجئون والمهاجرين الذين سبق واستعمرهم، توجّب عليه أن يقرأ تاريخ استعماره من المستعمَر ذاته.  توني موريسون (الكاتبة الأمريكة المهاجرة من أصل أفريقي) تعتبر أن أولئك المهاجرين السود وضعوا نقطة "سوداء" في الخيال "الأبيض". ينطلق سؤال الثقافة ما بعد الاستعمارية من هذه النقطة.

انطلاقًا من هذا التاريخ اللاجئ والمهاجر، ومن تلك الثقافة التي كتبت بأقلام المهاجرين واللاجئين، ومن ذلك التاريخ الذي رووه تمت إعادة النظر بالمركزية الغربية من قبل مفكرين غربيين: ديريدا، ميشيل فوكو وآخرين كثير... لكن الملاحظ في العديد من نقاد المركزية الغربية هو انطلاقهم من  اعتراف بوجود ثقافات أخرى ذات ثقل، وذات أثر حضاري، إنما ليس بوصفها جزءًا من ثقافة الغرب، بل ثقافة أخرى. انطلقوا من ذلك التنوع الثقافي ليفسروا اختلافهم واختلاف الشعوب الأخرى عنهم، بعبارة أخرى: وجدوا في الثقافات الأخرى مجرد أفق تفسيري للاختلاف.

فيما الثقافة ما بعد الاستعمارية، ثقافة الهجنة تعتبر أن الثقافة الغربية والثقافات الأخرى ثقافة كونية، وأن الثقافات الأخرى جزء من ثقافة الغرب كما أن ثقافة الغرب هي جزء من تلك الثقافات، الأمر الذي يعني انحسار، بل تراجع المركزية الثقافية واضمحلالها من حيث تأتي.

من المساحات البينية ينطلق متشظيًا سؤال الثقافة، السؤال الذي لم يكن من الممكن أن يولد إلا عبر اللسان المهاجر

من هنا نفهم جليًا مقولة حنا آرندت: "اللاجئون طليعة شعوبهم" (أو طليعة الأمة)، وذلك من حيث إنهم يروون حكاياتهم وثقافتهم وتاريخهم للبلدان الجديدة التي يلجؤون إليها، ويصنعون ثقافة جديدة هي ذلك المزيج الملون من ثقافتهم المحلية ومن ثقافة بلدان اللجوء.

اقرأ/ي أيضًا: مؤتمر الربيع العربي ونزع المركزية عن الدراسات الأمريكية

ومن هنا فاللاجئ صانع ثقافة وحضارة وليس مجرد بورصة انتخابية، وليس مجرد "عدو محتمل" للشعوب المستضيفة، وليس مجرد شخص يمكن أن يفعل كل شيء بما فيه القتل والسرقة والتحرش. ومن هنا، أيضًا، يمكن التفكير بقوة ومسؤولية بأثر اللاجئ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "حنا آرندت"..سيرة فيلسوفة لم ترض عنها "إسرائيل"

ضد الأنوار.. الأصول الفكرية للشرور النازية