16-ديسمبر-2018

روبوت كيوريوسيتي روفر التابع لناسا، على سطح المريخ (NASA)

شخصيًا لا أخفي ولعي الشديد بالفضاء والكشوفات الهائلة وراء هذا الكون الغامض اللامتناهي، وإذ ما كان يوجد بشر وحياة بالفعل هنالك أم لا، بينما لا أبدي أي حماسة للتواصل مع المحيط القريب، وهذه مفارقة في الاهتمام تنعدم فيها الحساسية بالجوار الإنساني، والانشغال بما هو أبعد، كما لو أنها محاولة للهروب من العالم المتهالك.

ما الذي يجعلنا نصدق قصص الهبوط على المريخ بنفس اليقين الذي تلقينا به رحلة الكلبة السوفيتية لايكا، قبل أن تموت أثناء اقتحام الغلاف الجوي؟

ثمة شكوك عديدة لم تنفك تلازمني منذ مزاعم هبوط رائد الفضاء نيل آرمسترونغ على سطح القمر، في ذروة تنامي أهوال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، مرورًا بغزوات ناسا في أوج عصر المباهاة بالسيادة القطبية الواحدة، وليس انتهاءً بهبوط المسبار الآلي "إنسايت" نهاية الشهر الماضي على سطح المريخ، ملتقطًا لأول مرة صوت الريح في الكوكب الأحمر، فبدا لنا مثل صوت الريح في الأرض، أو تلاطم أمواج المحيط. 

شاهد/ي أيضًا: فيديو: الكوكب الأحمر

في كل الصور المبذولة للمريخ، وما أكثرها إلى درجة أنك لا تستطيع أن تميز الحقيقي من السينمائي؛ تنهض عربة كيوريوسيتي روفر، تلك العربة التي هبطت قبل ستة أعوام تقريبًا، وتعمل بالطاقة النووية، واستغرقت رحلتها إلى هناك حوالي ثماني أشهر، ولحق بها الآن شقيقها كيوريوسيتي في نسخة متطورة، لإجراء بحوث على الأرض. 

لكن الصورة الملتقطة من هنالك بالدقة والوضوح، لم تظهر أي جانب مثير في الأمر، فقط تربة داكنة وبقع غامقة وأنهار تبدو جافة وبعض الجبال الصخرية، ما يعني جهود نصف قرن من الزمان لا زالت في طور البدايات الحائرة، بداية اكتشاف متخيل ربما تهدم بصورة ما كل مزاعم سنوات الحرب الباردة، الوالغة في غمرة الدعاية السياسية، أكثر من كونها فتوحات بشرية في الفضاء الرحب.

ما الذي يجعلنا نصدق قصص الهبوط على سطح المريخ، بنفس اليقين الذي تلقينا به خبر رحلة الكلبة السوفيتية لايكا، قبل أن تموت أثناء اقتحام الغلاف الجوي، وكذا احتراق سبوتنك في مغامرة غير محسوبة، وتحطم مركبة يوري غاغارين؟ فكلها هدفت غالبًا إلى معرفة تعاطي الكائنات الحيّة مع البيئة الفضائية.

ولكن طالما أنه لا أحد يأسى على إنسان اليوم، لا يمكن أن يأسى على حيوان في الماضي، وهو التناقض الأخلاقي الذي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية وربيباتها في القارة العجوز، بضلوعهم في تحويل شعوب الشرق إلى فئران تجارب للأسلحة، بشكل يعري وجه هذا العالم غير المتحضر.

لا أعرف كيف يحق للولايات المتحدة وأوروبا الانفتاح على كون فسيح لدرجة التفكير بالعيش مستقبلًا في كوكب المريخ، إن كان يصلح للحياة، وفي نفس الوقت منع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا، إلى درجة إغراق سفنهم في المحيط، وصعود ترامب على وعد جدار الفصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، وجدار الفصل العنصري الإسرائيلي أيضًا!

ثمة قلق من المستقبل الحافل بالتكنولوجيا وتوظيفها عمدًا للهيمنة على الشعوب والتحكم في مصائرنا بالنزعة الفوكويامية المغترة بنهاية التاريخ

ثمة قلق بشأن المستقبل الحافل بالتكنولوجيا، وتوظيفها عمدًا في الهيمنة على الشعوب، والتحكم في مصائرنا بالنزعة الفوكويامية المغترة بنهاية التاريخ على حائط رأسمالي بشع لا شيء بعده كما يتوهمون.

اقرأ/ي أيضًا: "نهاية نهاية التاريخ".. الديمقراطية الغربية في مهب الريح

قبل أيام شاهدت فيلم "Lockout" الذي تدور أحداثه حول رجل مدانٍ بالتآمر ضد الولايات المتحدة اﻷمريكية، وأُطلق سراحه لإنقاذ ابنة الرئيس من سجن الفضاء الخارجي الذي تم الاستيلاء عليه من قبل سجناء خطيرين. 

يعزز الفيلم فكرة السجون البعيدة جدًا لأعداء الغرب عمومًا، حتى لا يتمكن السجناء من الهروب، وهو أشبه بالمنفى الأبدي. ورغم أن الفيلم ينتمي لصنف الخيال العلمي، لكنه يتحدث عن فكرة مطورة من معتقل غوانتانامو، ذلك المعتقل سيء السمعة، الذي حبست فيه  السلطات الأمريكية كل من تشتبه في كونهم إرهابيين، وبالدقة كل من ليس معهم. 

ويعتبر معتقل غوانتانامو سُلطة مطلقة لوجوده خارج الحدود الأمريكية، في أقصى جنوب شرق كوبا، إذ لا يخضع لأي رقابة حقوقية، ويمثل انتهاكًا فظيعًا لحقوق الإنسان وإساءة معاملة السجناء. وهنا يمكننا إثارة المخاوف من أن يتحول كوكب المريخ لسجن كبير على غرار غوانتانامو، ومنفى "Lockout"، أو قرار "ليندهولم" جزيرة الحيوانات التي تخطط الدنمارك لإرسال المهاجرين إليها.

بعيدًا عن النزعة المثالية لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، والتي تتذرع بالعلم وخدمة البشرية، فإن غزوات الأرض والفضاء كانت دائمًا مدفوعة بنوايا سيئة، ليست أقل من هزيمة إرادة البشر واستغلالهم بالتفوق التكنولوجي، والثقافة المعولمة، هذا إن لم تنجح المغامرات البعيدة في استعداء الفضائيون علينا وإدخالنا في حروب كونية مع سكان كواكب لا قبل لنا بها.

لعل أكبر جريمة إعدام جماعي سوف ترتكبها ناسا هو الإعلان عن تنظيم رحلة إلى المريخ في العام 2030، والتي عرفت برحلة اللاعودة، أي الاتجاه الواحد لخلق حضور بشري على المدى الطويل فوق سطح الكوكب الأحمر، والسبب في كون الرحلة رحلة ذهاب فقط، هو أن التقنيات العلمية المتاحة حاليًا توفر خدمة الهبوط فقط، لكنها لا تتيح أي فرصة للعودة، بحجة أن جاذبية المريخ كبيرة، يصعب الاقلاع منها. وإذ سلمنا بصعوبة العودة، فلماذا تريد ناسا قتل البشر بالاشعاعات والمخاطر الصحية في هذا الكوكب غير المُكتشف بصور مطمئنة بعد؟

لعل أكبر جريمة إعدام جماعي سوف ترتكبها ناسا هو الإعلان عن تنظيم رحلة إلى المريخ في العام 2030، والتي عرفت برحلة اللاعودة

النظام الأمريكي يعبث بالدوافع الأخلاقية للمعرفة، فبعد تمثل النظرية اللاكانية (نسبة لجاك لاكان)، في محاولته رصد ما أسماه "طور المرآة"، وهي تلك اللحظة التي يتماهى فيها الطفل للمرة الأولى مع صورته في المرآة كمكوِّن للأنا، بوصفها مكاناً لـ"الاستعراف الخاطئ"، وبالتالي يمكن عد اللهث وراء رحلات كوكب المريخ دون هدف واضح، بأنه شكل من الاستعراف الخاطئ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل زار الفضائيون السودان؟

فيلم المريخي.. تخفيف أعباء المأساة