17-فبراير-2016

أسسنا مجموعة "حماة الكوكب" التي تنأى بنفسها عن الاشتراك في الصراعات المصلحية والحزبية

كثيرًا ما كانت تزعجني الصراعات بين الأسماك، أو بالأحرى تجاوز الحدود في الصراعات، كأن تطارد سمكة أخرى ثم تعضها حتى تردها صريعة. أو تضرب سمكة عملاقة مضخة الهواء بذيلها فتحرم الكوكب كله من الأوكسجين.

 يحيرني كيف تدير الأسماك معاركها وفق حدود يتم الاتفاق عليها تمنع اغتيال الحياة على الكوكب!

لم أفكر في الطرف الذي يجب أن أنحاز له، رغم حبي لبعض الفصائل والألوان دون غيرها، لكنني نحيت ذلك جانبًا، لأنني انتدبت نفسي لتحقيق عالم الأسماك الطبيعي، بما يحمله من أمزجة وطباع مختلفة، كان يحيرني كيف تدير الأسماك معاركها وفق حدود يتم الاتفاق عليها تمنع اغتيال الحياة على الكوكب. لكن إن وضعت الحدود، ما الذي سيجعل الأسماك تمتثل لها؟ كيف سأقنع الأسماك ألا تستخدم أسنانها في الصراعات؟!

بدأتُ بمجموعة من الأسماك المسالمة، وأسسنا مجموعة "حماة الكوكب"، تنأى بنفسها عن الاشتراك في الصراعات المصلحية والحزبية، ليس باعتبارها شرًا؛ ولكن باعتبار الأولوية الكبرى، دورها الحفاظ على مضخة الهواء، وعدم تسرب المياه، واعتماد آليات حضارية في الصراعات والدفاع عنها. فهي لا تقاوم وجود الصراعات، ولكن تتصدى لتجاوز الحدود والقواعد في إدارتها. ولا تنتصر لنوع محدد من الأسماك ولكن تنتصر للقواعد التي يتحقق بها عالم الأسماك.

هذه المجموعة لا تتصرف بمنطق نصرة من معه الحق، هذا ليس من شأنها، فمن معه الحق يمكن أن يطغى في الطرق التي ينتهجها لانتزاع حقوقه، مثلما كانت تفعل سمكة "الفانتيل" الشرهة جدًا للطعام، كانت ترى حقها في نصيب أكبر من الموارد، فحجمها ضخم وحاجتها للغذاء كبيرة، وباسم حقها في الغذاء العادل كانت تلتهم كل الطعام في قضمة واحدة. حتى تتضور بقية الأسماك جوعًا. يمكن لمن معه الحق إذن أن يغتال أصل الحياة وهو يشن معركته المقدسة.

هوجمت الفكرة في البداية، وانطلقت عبارات من قبيل "أتساوي بين الضحية والجلاد؟!" هكذا كان يظن كل فريق أن معركته هي المعركة التي لا يعلو فوقها صوت، لكنني وبحكم تجربتي في هذا العالم الذي صنعته بيدي، وجدت أن ضحية اليوم هو جلاد الغد، وجلاد اليوم هو ضحية الغد، بعض الضحايا فقط لم تتح لها الفرصة لتنضم إلى نادي الجلادين. هي تشتكي أن الأسماك الأكبر منها تطاردها.. لكن ماذا لو وَجَدَتْ أسماكاً تصغرها حجمًا؟! كيف سيكون سلوكها؟! لذلك كان الهدف أن تكون لمجتمع الأسماك حساسية لأي عدوان على أصل الحياة، وقدرة على كشف أي حالة تسلل وخرق للقواعد أياً كان مرتكبها، مثل إشارة المرور الحمراء التي تحسب غرامة على من يكسرها، سواء كان متجهاً لسرقة بنك أو لزيارة مريض.

اخترت مجموعة من الأسماك العاقلة، وأوكلت لها مهمة الرقابة والتدخل في حالة خرق القواعد. لكن هذه المجموعة بمرور الوقت أصبحت أضحوكة كوكب الأسماك. فكلما حدث انتهاك كانت تخرج الفقاقيع من فمها في آن واحد كعلامة احتجاج. كانت محط سخرية واستفزاز. فالأسماك تسخر منها لقلة حيلتها، وهل ترتدع الأسماك الباغية بالفقاقيع؟! كما أنها محط استفزاز لأن الأسماك لم تكن تحب من يقف في هذه المساحة الوسط، التي ترفض الانحياز لأي طرف، فالمتصارعون لا يرون سوى الأبيض والأسود، إما معنا أو ضدنا، وطغيانهم يتسع حين يصادرون الرؤية ويرهبون من يرون ألواناً أخرى.

كم هو سخيف أن ندعو المتصارعين المتجاوزين للاستماع لصوت العقل، خاصة إن كان هذا الصوت خافتًا خجولًا

ما لم تره الأسماك الغاضبة أن الأسماك التي اخترتها لم تقف في مسافة الوسط، لم تكن أصلًا تقف في معركة الفصيلين المتصارعين، كان هذا ظلها، لكنها كانت تتصدر معركة تقرير وحفظ القواعد التي تحكم الصراعات، كانت منحازة كل الانحياز لحماية القواعد وردع الخروقات.

أدركت خطئي في اختيار نوعية الأسماك، فقد تحولت هذه الأسماك الضعيفة التي لا تملك سوى الفقاقيع إلى مادة للتحرش، حتى ظننت أن الأسماك بعد معاركها الضارية تأخذ قسطًا من الراحة والتسلية في مهاجمة ولمز هذه الأسماك. كنت أنا من يقدم المادة الترفيهية للأسماك المتصارعة. عرفت كم هو سخيف أن ندعو المتصارعين المتجاوزين للاستماع لصوت العقل، خاصة إن كان هذا الصوت خافتًا خجولًا. الذين تجاوزوا الحدود في صراعاتهم سٌلبوا عقلهم يوم أعلنوا الجنون. وسيفيقون ليس بسبب قوة حجة صوت العقل، بل بقوة نفوذه وتأثيره وأدوات الإقناع والإجبار التي يملكها. 

ستظل أسماكي المختارة مادة للسخرية والتحرش ما اكتفت بالفقاعات وسيلة للتنديد تقاوم بها طوفان الجنون. هم ليسوا ملهمين حتى تنضم أسماك أخرى إليهم، فهم في مساحة رخوة وهشة، والوقوف فيها أشد خطورة من الانحياز لطرف، فهي بالنسبة للأسماك المساحة التي يقف فيها الضعفاء والجبناء الذين يهابون معارك البحار. وفيها تتلقى الضربات من الجميع بدون أي درع يحميك.

أدركت أن من يقف في هذه المساحة يجب أن يكون أقوى من كل الأطراف، ولديه من أدوات النفوذ والضغط والتأثير ما يمكنه من التصدي للطرفين مجتمِعَيْن. أدركت أن الموضوع ليس إعلان موقف، بل تثبيته واقعًا. هذا ما جعلني أغير الاستراتيجية. وأسخر طاقتي لدعم هذه المجموعة والتخطيط لها ومعها.

تحاورت مع سمكة "بليكوستومس" التي تنظف الزجاج وتأكل الطحالب، وسمكة "كات فيش" التي تنظف أرضية الكوكب من بقايا الطعام وفضلات الأسماك. اقتنعا بالانضمام إلى مجموعة "حماة الكوكب"، الآن أصبحت نظافة الكوكب في يد هذه المجموعة، وهو ما يعني أن الأمر لم يعد مجرد فقاقيع، يمكن للأسماك أن تصحو نهارًا لتجد مياه نقية شفافة، أو داكنة رائحتها تزكم الخياشيم. 

انضمت بعد ذلك لنا سمكة "التيجر" وهي صغيرة الحجم سريعة ورشيقة، وبإمكانها إزعاج أضخم الأسماك بقضم أجزاء من ذيلها. وهو ما يعني أن ذيل الأسماك ودفة توجيهها أصبح في يد فريق "حماة الكوكب". الآن أصبح للعقل صوت.. بل هدير تخشع له الآذان.

بمرور الوقت تكونت عدة مجموعات ثم تشكل تيار كبير، كان هو التيار الأقوى في سمو معركته وقدرة أدواته، لم يصفه أحد أنه رمادي أو يقف في مساحة وسط، أصبح الانحياز إليه مغنمًا، وتم الاعتراف به لاحقًا كلون أساسي لا يقف بميوعة بين الأسود والأبيض، بل هو الذي يحدد درجة السواد والبياض. 

اقرأ/ي أيضًا:

أول ضحية على الكوكب

لماذا تموت أسماكنا؟!