تعتيمٌ على الحادث أم تدقيق في الأعداد، لا أحد يعرف على وجه الدقة، فليست ثمة إجابة على هذا السؤال وغيره عشرات الأسئلة المعلقة دون إجابة لأكثر من 18 ساعة بلا بيانٍ أو إبلاغٍ رسمي من جهة الدولة المصرية، إلا بيانًا واحدًا لوزارة الداخلية لا يقول شيئًا مفيدًا.
العجيب أنه مع التعتيم الإعلامي من قبل وزارة الداخلية والحكومة، انتقدت الوزارة تغطية وسائل الإعلام مطالبةً إياها بتحري الدقة!
بدأت الأنباء بالورود عن تبادل إطلاق نار في المنطقة الصحراوية الجبلية المتاخمة للكيلو 135 بطريق الواحات في الجيزة. متى بدأ ذلك تحديدًا لا أحد يعلم على وجه الدقة، لكن الأكيد أنه بدأ قبل ساعات من ورود أول الأنباء. تعددت الأقاويل ما بين أنه كان فجر الجمعة وظهر الجمعة، ومساء الجمعة. والمرجح أنّه ما بين الفجر والظهر.
اقرأ/ي أيضًا: الشرطة المصرية (2).. عقيدة الفشل
لم يعطِ البيان الأول لوزارة الداخلية أية معلومات مفيدة، ليخرج بعدها بساعات طويلة، البيان الثاني للوزارة، ليقول إن عدد القتلى من الشرطة 16 ضابطًا وجنديًا، والمصابون 13، وفقد أحد الضباط لساعات قبل التوصل لمكان جثته في الصحراء، ليرتفع العدد لـ17.
تختلف الأعداد المعلنة من جانب الوزارة كليًا عن التي نقلتها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء عن مصادر أمنية. فآخر تلك الأعداد كان 53 قتيلًا من طرق الشرطة، كما أن البرلماني المصري المقرب من الأجهزة الأمنية، مصطفى بكري، لفت في تغريدات إلى أن هناك توقعات بوجود رهائن من الشرطة لدى المجموعات المسلحة التي اشتبكت مع الشركة.
المثير في الأمر أنّه مع التعتيم المستغرب من قبل وزارة الداخلية، والذي أثار الشكوك وحوّل الأمر لقضية غامضة، انتقدت الوزارة وسائل الإعلام التي حاولت جاهدة عبر العديد من المصادر، الوصول إلى رواية مكتملة عن الحادث، مطالبةً إياها بـ"تحري الدقة"!
وحتى اللحظة، التزمت مؤسسات الدولة الأخرى الصمت. فلا بيانات من قبل رئاسة الجمهورية ولا رئاسة الوزراء، بل إن رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي مضى قدمًا في جدول أعماله التقليدي، بإجرائه زيارةً لمنطقة العلمين كما كان معدًا سابقًا.
ووسط هذا الصمت، توالت بيانات التضامن والتعزية من الدول العربية والغربية، بل إنّ الأردن أعلن تنكيس العلم في الديوان الملكي حدادًا على ضحايا القوات الأمنية المصرية، في الوقت الذي لم تعلن فيه مصر الحداد أصلًا!
رواية الداخلية
وفقًا لرواية وزارة الداخلية، التي جاءت متأخرةً جدًا عن الحادث، أن قوات الأمن رصدت مكان اختباء عناصر إرهابية في المنطقة المتاخمة للكيلو 135 بطريق الواحات بعمق الصحراء، فتحركت قوة أمنية مساء الجمعة 20 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لمداهمة تلك العناصر.
وبحسب البيان الثاني فقد تحركت قوتين وليست قوة واحدة، إحداهما من محافظة الجيزة والأخرى من محافظة الفيوم، لوقوع المنطقة المقصودة بين المحافظتين. ووفقًا لنفس البيان، فمع اقتراب القوة الأولى بادرت العناصر المسلحة باستهداف القوة باستخدام أسلحة ثقيلة، تقول مصادر إعلامية إنها قذائف "آر بي جي" وعبوات ناسفة.
تحمل رواية وزارة الداخلية عن هجوم الواحات تناقضات داخلية، إضافة لتضارب أعداد الضحايا في روايتها مع ما نشرته مصادر صحفية
وقعت الاشتباكات لعدة ساعات، وسقط 17 قتيل من الشرطة وأصيب 13 آخرين، فيما وقع 15 قتيل في صفوف المسلحين. المثير أن البيان لم يُشر لموقف القوة الأمنية الثانية.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا كل هذا الفشل المصري في مكافحة الإرهاب؟
الغريب في بيان وزارة الداخلية التي ظلت صامتة لساعات طوال، انتقاده وسائل الإعلام، ومطالبتها "تحري الدقة في المعلومات الأمنية" و"الاعتماد على المصادر الرسمية"، لكن تكمن مشكلة واحدة في ذلك، أن المصادر الرسمية ظلت صامتة بشكل أثار الريبة.
وقد خلا بيان الداخلية من الإجابة على عدة تساؤلات مشروعة، مثل كيف بادر المسلحون بإطلاق النيران على قوات الشرطة؟ هل كانت العناصر المسلحة على علم مُسبق بقدوم القوة الأمنية؟ وما الذي يعنيه ذلك؟ هل كان استدراجًا للقوة الأمنية للإطاحة بهذا الرقم الضخم من ضحايا الشرطة، سواءً كان رقم وزارة الداخلية أو الرقم المتداول في وسائل الإعلام (53 قتيلًا من الشرطة)؟ هل بالفعل ثمة رهائن من الشرطة في قبضة المسلحين كما قال مصطفى بكري؟
الحادث برواية المصادر الصحفية
أوضح بيان الداخلية بداية القصة، وهي رصد بؤرة لعناصر مسلحة في منطقة صحراوية متخامة للكيلو 135 بطريق الواحات في الجيزة. وهو ما يتفق مع ما صرحت به المصادر الصحفية. لكن ما انبنى على هذا الرصد فيه تضارب، أو نقص حاد في المعلومات. هل الرصد كان بعد هجوم على قوة/كمين أمني، أم أنّ الرصد هو البداية ثم حدثت الاشتباكات؟
ونقلت وكالة أنباء رويترز، عن ثلاثة مصادر أمنية، اليوم السبت، أن عدد ضحايا الشرطة بلغ 52 قتيلًا ما بين ضابط ومجند، فيما أُصيب نحو ستة آخرون. تقارير صحفية اُخرى نقلت عن مصادر أمنية أن عدد قتلى الشرطة وصل لـ58، مع توقعات بوجود رهائن من الشرطة في قبضة المسلحين.
وتُرجّح العديد من المصادر الصحفية رواية وجود اختراق للشرطة هو الذي أدى -على الأقل- للمبادرة بإطلاق المسلحين النيران على القوة الأمنية التي يفترض بها تنفيذ عملية "مداهمة"، وهو ما قد يفسر كثرة أعداد الضحايا في صفوف الشرطة.
هذا، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تسجيل صوتي، يقول البعض إنه لضابط في القوة الأمنية خلال الاشتباكات، يصف ما يحدث في ساعاته الأولى. لكن يشكك البعض في صحته، وقد نفاه مصدر أمني لصحيفة الفجر الموالية للنظام المصري. وحُذف المقطع المسجل من على موقع يوتيوب.
إلا أنه أُذيع قبل قليل، على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام المصرية، تسجيل لشخص يقول إنه طبيب بمستشفى العجوز، يروي فيه ما يقول إنها شهادات عددٍ من المجندين المصابين في الحادث الذين أشرف على علاجهم في المستشفى.
أولًا يؤكد التسجيل صحة التسجيل الصوتي الأول الذي نفى صحته البعض. كما أنّه يكشف كثيرًا من تفاصيل الحادث بشهادة الجنود وفقًا لصاحب الصوت. هذه التفاصيل تكشف جزءًا كبيرًا من عدم صحة رواية الداخلية، وتُؤكد أيضًا اختراق الشرطة المصرية عبر عميل مندس، يعمل لصالح العناصر المسلحة. ووفقًا للتسريب فالعميل يُفترض أنه مخبر يعمل لصالح الشرطة، كان مرافقًا للقوة الأمنية التي خرجت للمداهمة، قبل أن ينضم لصفوف العناصر المسلحة التي قد أعدت كمينًا محكمًا للقوة الأمنية.
من هم المسلحون؟
في المجمل لف الحادث غموض يكتنف تفاصيله، تقع مسؤوليته على عاتق الحكومة المصرية التي اختارت الصمت طويلًا، ثم الإدلاء بمعلومات منقوصة، رغم هول الحادث الذي إذا ما أُخذ بحسب بيان الداخلية، فهو ضمن أكبر الحوادث الإرهابية التي تعرضت لها قوات أمنية في مصر خلال السنوات الأخيرة، وإذا ما اُخذ بالمعلومات التي أفضت إليها المصادر الصحفية، بما في ذلك عدد ضحايا الشرطة، فيُعد الأكبر في تاريخ الشرطة المصرية، التي يُذكر أن عيدها السنوي (25 كانون الثاني/يناير)، ينبني على تخليد ذكرى موقعة الإسماعيلية عام 1952 التي راح ضحيتها 50 قتيلًا من الشرطة، مع فارق أن موقعة الإسماعيلية سقط فيها ضحايا الشرطة على يد الاحتلال الإنجليزي، في حين أن هجوم الواحات سقط فيه ضحايا الشرطة على يد من لا نعرف على وجه الدقة من هم!
في الساعات الأولى من تداول أول الأنباء عن الحادث، وكانت لا تزال الاشتباكات مُستمرةً فيما يُرجّح، تداولت وسائل إعلام مصرية اسم هشام عشماوي باعتباره من يُرجح أنه يقف وراء تلك الحادثة. وهشام العشماوي هو ضابط سابق في قوات الصاعقة بالجيش المصري، قبل أن يُقال بمحاكمة عسكرية، وينضم لصفوف تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء، ويلعب دورًا هامًا في تطوير نوعية عملياته.
انشق العشماوي عن أنصار بيت المقدس عندما أعلن التنظيم مبايعة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغير اسمه لـ"ولاية سيناء". وأسس عشماوي في 2015 تنظيمًا آخر أسماه "المرابطون"، يُرجّح ارتباطه بمبايعة لتنظيم القاعدة. كما يكثر التداول عن نشاطه في ليبيا، على الأقل لتهريب السلاح إلى الداخل المصري.
بعد ذلك، أوردت وكالة أنباء رويترز، وتبعتها عدة مصادر صحفية، الاشتباه في تورط حركة سواعد مصر (حسم) في الحادث، فيما يبدو أنه لارتباط اسمها بعمليات سابقة في المحيط الواسع لمنطقة الحادث (مدينة 6 أكتوبر وحي الهرم)، رغم أنّ البعض يذهب إلى أن الحادث -ومع تأكيد بيان الداخلية باستخدام المسلحين أسلحة ثقيلة- يفوق قدرات حركة حسم التي تتهم الداخلية جماعة الإخوان المسلمين بالوقوف وراءها، فيما تنفي الجماعة ذلك مُؤكدة اعتمادها "المقاومة السلمية".
تتعدد الاحتمالات الخاصة بالمسلحين المتورطين في الحادث، ما بين أنهم من تنظيم هشام العشماوي أو من حركة حسم أو عناصر من داعش الصعيد
وتقع منطقة الحادث بين محافظتي الجيزة والفيوم، ضمن ما يعرف أمنيًا بالقطاع الغربي الممتد إلى صعيد مصر. وتعرف تلك المنطقة تحديدًا نشاطًا كثيفًا لتجار ومهربي المخدرات والسلاح، كما أنها تحمي كثيرًا من المطاريد. دفع ذلك البعض إلى الشك في أنّه من المحتمل أن الاشتباكات كانت مع تجار مخدرات أو سلاح. ومع نقص المعلومات، وعدم ظهور أي بيانات من أي تنظيم مُسلح، تظل كافة الاحتمالات واردة، بما فيها داعش أو أحد فروع تنظيم ولاية سيناء، يُحتمل أن يكون "داعش الصعيد"، وإن كانت تلك المنطقة بعيدة عن مسرح عملياته نسبيًا.
صمتُ وتجاهل مُريب
تجاوز الصمت وزارة الداخلية التي انتظرت نحو 24 ساعة حتى أصدرت بيانها الذي جاء فيه بعض التفاصيل، بخلاف البيان الأول الذي لم يُوضح شيئًا يُذكر. ووصل الصمت إلى كافة مؤسسات الدولة، خاصة مجلس الوزراء، الذي اكتفى ببيان إدانة مقتضب، ورئاسة الجمهورية التي تعاملت مع الحادث بتجاهل مُريب مثيرٍ للشكوك.
اقرأ/ي أيضًا: بعد هجوم حافلة أقباط المنيا.. ما لا تعرفه عن "داعش الصعيد"
وحتى لحظة كتابة التقرير لم تصدر رئاسة الجمهورية أيّ بيانٍ يخص الحادث الذي تحدثت عنه كافة وسائل الإعلام محليًا ودوليًا، بل وسبقت العديد من الدول إلى إصدار بيانات شجب وتنديد ومؤازرة لمصر "في حربها على الإرهاب". ولا تزال رئاسة الجمهورية صامتة.
وبعد أن تردد بالأمس إلغاء السيسي لزيارة منطقة العلمين لإحياء الذكرى الماسية (75 عامًا) على معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية؛ نفى الأمر الواقع تلك الأنباء، إذ مضى السيسي قدمًا في جدول أعماله، وزار منطقة العلمين، وألقى كلمة لم تُبث، وإنما تضمنها بيان أصدرته رئاسة الجمهورية.
الغريب أن الكلمة، وفقًا للبيان، لم يُشر السيسي في كلمته، التي يبدو أنها كانت معدةً سلفًا، لهجوم الواحات، على عكس عادته في الخروج مباشرة عقب الأحداث الإرهابية الكبيرة لإلقاء خطاب للشعب المصري.
بالتوازي مع ذلك، تراجعت تغطيات وسائل الإعلام المصرية للحادث، كما تجاهلت الدولة المصرية إعلان حالة الحداد، كما سبق وحدث في عمليات إرهابية أُخرى كعملية الفرافرة على سبيل المثال. كل ذلك يُضاف إلى الغموض الذي يكتنف أجواء الحادث ليزيد من الريبة تجاهه.
حوادث متكررة في المنطقة الغربية
على مدار السنوات القليلة الماضية، شهدت المنطقة الغربية الممتدة من طريق الواحات وحتى قرب الحدود المصرية الليبية، العديد من العمليات الإرهابية، بعضها عمليات كبرى من حيث أعداد الضحايا.
من بين هذه العمليات، واحدة وقعت حزيران/يونيو 2014، على طريق الواحات - الفرافرة، استهدفت كمينًا أمنيًا في الكيلو 100، ما أدى لمقتل ضابط وخمسة مجندين. وفي تموز/يوليو من نفس العام، تعرض كمين أمني تابع للجيش المصري، في منطقة الفرافرة، لهجوم مسلحين، أدى لسقوط 28 ضابطًا ومجندًا. وكان حادثًا جللًا، دفع مجلس الدفاع الوطني إلى الانعقاد، وأعلنت الدولة حالة الحداد.
شهدت المنطقة الغربية بدءًا من طريق الواحات حتى المنطقة الحدودية مع ليبيا، العديد من الاستهدافات الإرهابية لقوات أمنية بالتحديد
وفي أيار/مايو الماضي، وأثناء حملة أمنية تابعة للجيش المصري في المنطقة المتاخمة لطريق الواحات، انفجر حزام ناسف كان بحوزة أحد المسلحين، في الحملة الأمنية، ما أدى لمقتل 3 ضباط ومجند.
اقرأ/ي أيضًا: