31-يوليو-2020

لوحة لـ بدري نارايان/ الهند

في الأساطير اليونانية، ثاناتوس هو إله الموت، يتمثل بهيئة شيخ ملتح بجناحين، يلف جسده في عباءة سوداء. يُذكر ثاناتوس دائمًا بجوار إيروس، إله الحب. كلاهما قطبين لآلية واحدة تنظم الوجود، وهو ما أطلق عليه فرويد "مبدأ الموت" و"مبدأ المتعة". يخلق إيروس الحياة، ويدمّرها ثاناتوس. ولكن في لعبة الأدب، قد تنعكس الدلالات.

ماريا ثامبرانو: "لا شاعر، ولا فنان يمكن تقييمه أثناء حياته؛ إذ يجب أن يكون في عِداد الموتى، ذلك لأغراض المقارنة"

يموت الشعراء بطرق عديدة، وبينما يموت الكثير منهم في سن صغير، على الرغم من أنني لا أعرف إذا ما كانت الإحصائيات تدعم هذا التصريح. يموت البعض في فراشهم، البعض في المشافي الحكومية، وينتحر آخرون، مثال الشاعر اللبناني خليل حاوي ومحمد منير رمزي من مصر. لكن في النهاية، يخلصون جميعهم إلى الانضمام لـ"نادي الشعراء الموتى" (Dead Poets Society)الاسم المستعار من فيلم يحمل نفس العنوان.

اقرأ/ي أيضًا: محمد الماغوط.. شاعر الشفوية المضادة

ضمن إطار آخر، ترى الفيلسوفة الإسبانية ماريا ثامبرانو أن الوجود المعذب والغارق لكل من سورين كيركغور، ونيتشه، وبودلير لا يمكن فصله، مثلًا عن أي عنصر جمالي قد تصوّره إليوت، دون حدوث موتهم في الواقع: "لا شاعر، ولا فنان يمكن تقييمه أثناء حياته؛ إذ يجب أن يكون في عِداد الموتى، ذلك لأغراض المقارنة".

من الواضح أن موت الشاعر هو جزء من كتابته الشعرية نفسها، مثال ذلك، حاجة الشعراء الميتين التي لم تزل صريحة ناحية استئناف نصوصهم المعلّقة بسبب الموت: "أيها الموت انتظرني خارج الأرض. انتظرني في بلادك ريثما أنهي حديثًا عابرًا مع ما تبقى من حياتي" (محمود درويش- جدارية). في حالة درويش، أدى موت الشاعر إلى صندقة نصه، بينما أصبح اسمه نصًا لقضية تعبر عن حركة أو هوية، في حالات أخرى، حمل الشعراء مسدساتهم وانتحروا في غرفهم، وذلك تقليد أدبي، استمر حتى نهاية القرن العشرين. انتحر الشاعر خليل حاوي مُطلقًا النار على رأسه عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982. آنذاك كان دور الشعر في العالم العربي أكثر جرأة مما هو عليه اليوم، وكان الشعراء شخصيات جسورة خاصة في سيرة حاوي، كانت الكثافة الحادة في نصوصه تدعونا إلى المهلك.

مما لا شك فيه أن إنجازات حاوي ككاتب وشاعر وضعته مباشرة في الساحة الثقافية، ولكن ما جعله شخصية عامة في الواقع هو انتحاره. مثال ذلك الشاعر اللبناني انطوان مشحور، وهو معاصر حاوي، كتب أخص القصائد ناحية البؤس والوحدة حتى مات مطلقًا النار على رأسه صباح 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1975.

ضمن إطار آخر، تُمشهدُ ذاكرة مشفى المواساة في دمشق، عصر يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1982 منظر إدخال جثة رياض الصالح الحسين في ثلاجة الموتى. الشاعر الذي أودى به خطأ طبي سنة 1967 إلى الصم والبكم في المستشفى نفسه. لقد مات دون ضوضاء، وبقي في ثلاجة الموتى ثلاثة أيام قبل أن يدفن، هكذا كانت العدالة التي أوصاها في نصه: "العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء/ أن أذهب إلى السينما بهدوء/ أن أغني بهدوء/ أن أقبِّل حبيبتي بهدوء وأموت بلا ضجة".

أما الشاعر السوري منذر مصري فقد صوّر وقائع ما قبل موت رياض في كتاب الأعمال الكاملة: "كان رياض في سريره في غيبوبة، وكانت أمه جالسة على حافة السرير الفارغ المجاور لسريره مرتدية السواد. كنت أشعر بوحشة لأن المكان بدا لي وكأنه مهجور، فأنا لم أر طبيبًا جنبه ولا ممرضة".

من الواضح أن موت الشاعر هو جزء من كتابته الشعرية نفسها، مثال ذلك، حاجة الشعراء الميتين التي لم تزل صريحة ناحية استئناف نصوصهم المعلّقة بسبب الموت

محمد الماغوط، وهو ظاهرة ذات وظيفة استفزازية، كتب في بيئة من الفجور، البغضاء والوحدة، تنبض بأفعال متطاولة صوّرها باندفاق مفردات عادية فيما جعل الأخيرة تدور ضمن روليت نثري أنشأه ولعب فيه بشطارة وخفة حلوة، إلى أن مات على فراشه مساء يوم الاثنين 3 نيسان/ أبريل سنة 2006 بعد تعرضه لجلطة دماغية، وعلى الرغم من تناقضه مع عدة مفاهيم لم يكن يستهلكها خلال حياته اليومية بالقدر الذي ذكره في نصوصه، كالعاهرات والجنس والخمور، إلا إنه لم يتناقض مع رؤية الموت على الإطلاق: "أيها التعس في حياته وفي موته/ قبرك البطيء كالسلحفاة/ لن يبلغ الجنة أبدًا/ الجنة للعدائين وراكبي الدراجات.

اقرأ/ي أيضًا: كم مرة ستقتلون حنا مينه؟

الشعر، الشعر الحقيقي، على الرغم من أنه يعتبر مقطعًا من الأدب، إلا أنه يتميز بخاصية، وهي "الحقيقية"، أي ما يجعله حتمية واقعة حتى وإن لم يحدث على الفور. ذلك لاستناده على البحث عما هو حقيقي في حياة الفرد، مع تحليل ذاتي لا يرحم في السائد، وطاقة لفظية عنيفة تتزامن مع محاولات الشاعر في التحرر من الصور النمطية للوجود من خلال بحثه المتشنج عن الحقيقة، إلى أن يصل إلى آخره، مضيفًا إلى كتاباته، نص موته الفعلي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

الشعر الجاهلي والحديث على رأس بندقية خليل حاوي