23-أغسطس-2018

فتح موت حنا مينه (1924 – 2018) تساؤلًا قديمًا على وجود أعمال كثيرة سيئة في منجزه الروائي، حتى أنّ البعض وصل بأن توجّه بالنقد الجارح للأعمال الروائية التي كتبها أثناء فترة مرضه، وهذا الكلام غير دقيق على الإطلاق، فليس بالضرورة أنّ كل ما يكتبه الروائي يجب أن يصنّف ضمن الأعمال الخالدة أو يكون واحدًا من روائع الأدب. هذه مسألة متروكة للقرّاء عبر الزمن، فهمم من ينتقون من منجز فنيّ ما يوافق ذائقة أزمانهم، لتأتي أزمنة أخرى فتكرّم ما تم إهماله، أو تهمل ما تم تكريمه. لهذا فلندع عمل المستقبل للمستقبل.

كانت آخر الأعمال التي نشرها مينه قبل رحيله من أسوأ ما كتب، ونشرت قبل ذلك في حلقات ضمن ملحق الثورة الثقافي، على ما أذكر، جاءت الرواية صادمة للأمانة، فمن قرأ "الياطر" لا يمكنه الاستمرار بقراءة "عاهرة ونصف مجنون"! لكن هل نقوم بنسف أو الاستهزاء بما اشتغله سابقًا من أعمال في بداياته الروائية؟ خصوصًا أنها أعمال شكّلت مفترقًا في تحويل اهتمام الرواية إلى المهمشين.

تجربة الكاتب، أي كاتب، تحتمل مراحل صعود أو هبوط، وهذا القول ينطبق على حنا مينه كما ينطبق على محمد الماغوط

يمكن القول هنا إن مينه فعليًا انتهى كروائي قبل ذلك ببضعة أعمال روائية. ولا أعني بالقول إنه "انتهى كروائي" أنّ تجربته غير صالحة للاستعمال، إنما أعني بشكل محدّد أنه قال كل ما كان يريد أن يقوله لنا.

اقرأ/ي أيضًا: وداعًا حنا مينة.. إنزال أخير لمرساة ربان الرواية العربية

المكانة التي نالتها أعماله قادته ليلقّب بـ"شيخ الرواية السورية"، وكذلك بالأب الروحي للواقعية الاشتراكية. كان "نصيرًا للاشتراكية" كما يقول عنه الناقد فيصل درّاج، وترك بصمة في أعماله تسرد الكفاح الإنساني والتحوّل الاجتماعي، وأثر الاستغلال على الناس، كما قدّمت نصوصه مثالًا ناصعًا على أدب مقاومة الاستعمار.

تحدث عن تحرّر المرأة؛ كان أفضل من وصف البحر والطبيعة، في مراحل كثيرة من "الياطر" نقرأ مشاهد طبيعية تبحث عن فنان ليرسمها، كان أكثر ما يميّز مينه أنه نقل الحكاية الشفوية إلى السرد الواقعي، من هنا جاءت أهميته كقامة روائية على المستوى العربي قبل المحلي، فهو بدأ الكتابة في فترة كانت سوريا تعيش حراكًا سياسيًا يحاول تشكيل دولتها الوطنية، ليأتي مينه مقتحمًا المشهد الثقافي بمصابيحه الزرقاء.

يتعامل البعض مع الكاتب على أنه بطل خارق أو إله، وذلك مجانب للصواب، لأن تجربة الكاتب تجربة إنسانية بامتياز فيها الكثير من السلبيات والإيجابيات لا يمكن النظر إليها بطريقة أخلاقية. تجربة الكاتب، أي كاتب، تحتمل مراحل صعود أو هبوط، وهذا القول ينطبق على حنا مينه كما ينطبق على محمد الماغوط، لأنهما برزا في أعمالهما الأولى بنمط أدبي جديد، وكانا يؤسسان لمدرستين أدبيتين جديدتين في المشهد الثقافي السوري حينها، وتركا أثرًا كبيرًا أشعّ على كثير من القرّاء، ولا يزال إشعال تلك الأعمال متواصلًا إلى وقتنا الحاضر، وهذا الإشعاع، إن جاز التعبير، هو ما يجعل الأدب أدبًا والكاتب كاتبًا، لا يُذكر اليوم عمل الماغوط "شرق عدن.. غرب الله" مثلما يأتى الحديث عن "الفرح ليس مهنتي"، أحد أهم النصوص التي أسّست للقصيدة اليومية التي باتت تتسيّد الكتابة الشعرية عربيًّا.

لدينا أيضًا غابرييل غارسيا ماركيز (1927 – 2017)، ألم يكتب روايًة سيئة في آخر سنينه؟ علينا الاعتراف أن روايته الأخيرة "ذاكرة عاهراتي الحزينات" كانت من أسوأ ما كتبه صاحب نوبل للأداب عام 1982، لا بل إنها مأخوذة من رواية الياباني ياسوناري كاواباتا (1899 – 1972) "الجميلات النائمات" التي كتب ماركيز نفسه مقدمة إحدى طبعاتها، فأعاد كتابة ما كان مكتوبًا بالأساس، ورغم ذلك لم يجر الهجوم على ماركيز.

هناك سبب يكمن خلف النقد الذي وجه لمينه، وهو مطالبته بتحديد موقفه من الثورة السورية، مع أنه غاب عن المشهد الثقافي منذ ما يقرب 15 عامًا من تاريخ رحيله، وليس هناك علم عن سبب الغياب، لكن أليس التساؤل إن كان الرجل مصابًا بأمراض الشيخوخة واردًا؟ ثم كيف يعتبرونه كاتبًا ميّتًا في أعماله الأخيرة ويطالبونه في ذات الوقت بموقف سياسي؟ لا أعرف! لكن علينا أن نسأل كذلك؛ كم مرة ستقتلون مينه؟ وكم مرة تريدون قتل الماغوط؟ وقائمة الأسماء قد تطول وتطول إذا أردنا ذكرها جميعها.

مسألة مقارنة إنجاز مينه بموقفه السياسي ليست بجديدة على المشهد السوري، فقد سبقه إلى تلك المحكمة كثيرون، فحين أعلن عن وفاة جورج طرابيشي (1936 – 2016)، كان صاحب "سارتر والماركسية" قبل 25 عامًا من عام رحيله قد أعلن تفرغّه للرد على مشروع المفكر المغاربي محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" بمشروع فكري عنونه بـ"نقد نقد العقل العربي" صدر عنه أربعة أجزاء. كان طرابيشي مثقفًا من الطراز الرفيع، قدّم للمكتبة ترجمة لأمهات الكتب، لكنه حين أُعلن خبر وفاته عنّون أحد مواقع الإعلام البديل أنه رحل "دون موقف واضح من الثورة" في خبر تم اقتباسه حرفيًا عن النسخة العربية لويكيبيديا.

مسألة مقارنة إنجاز مينه بموقفه السياسي ليست بجديدة على المشهد السوري، فقد سبقه إلى تلك المحكمة كثيرون

وللمفارقة فإن مطالبة أَعلام الثقافة السورية الأموات بموقف سياسي وصلت لدى البعض إلى مرحلة نبش القبور. أعتقد هذا النقاش زاد عن حده، لا بل أجزم بذلك؛ إذا ما نظرنا إلى تجارب الشعوب الأخرى نجد أنها تحترم كتابها رغم مواقفهم السياسية، كان مارتن هايدغر (1889 – 1976) مؤيدًا للنازية، لكن ذلك لم يلغ منجزه الفلسفي الذي تركه خلفه، ومثله أيضًا الفنان سلفادور دالي (1904 – 1989) الذي أرتد عن السوريالية عائدًا إلى إسبانيا لتأييد الدكتاتور فرانكو، لكن لا يمكنك أن تتجاوز المدرسة السوريالية دون الحديث عن دالي؟

اقرأ/ي أيضًا: تعرف على 5 من كلاسيكيات الرواية العربية

علينا الالتفات إلى أن التقليل من المنجز الأدبي أو الفكري للكاتب بسبب موقفه السياسي فيه طمس لمراحل تطور المشهد الثقافي السوري في مختلف المضامين، وهذا النقاش ينطبق على حنا مينه، وللأمانة ما أعجبني من منجزه الروائي لا يتجاوز الست أو سبع روايات، لكن لا يمكنك الحديث عن تاريخ الرواية السورية متجاهلًا ما قدّمه للمكتبة العربية، وعن دوره في تأسيس أدب الواقعية الاشتراكية السوري، أو حتى تاريخ الثقافة في سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، مهما قيل أو يقال من تقليل فيما كتب من أعمال روائية، فإنه يبقى دائمًا يحفر في مخيلتنا قصة زكريا المرسلني الذي وصل لقناعة نهائية بأنه "مضطرًا إلى موجهة الواقع"، وأظنّ أننا الآن مضطرون إلى ذلك أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تعرّف على 5 من أبرز الروايات السورية

رواية "أرض الكلام".. قوة الشكل وتراجيديا المضمون