في ظل التحديات البيئية المعاصرة، يأتي الاقتصاد الأخضر كمفهوم حيوي يهدف إلى تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة، مقدمًا رؤية شاملة لمستقبل مستدام يرتكز على الابتكار والعدالة الاجتماعية.
تعريف الاقتصاد الأخضر
الاقتصاد الأخضر مفهوم شامل يركز على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع الحفاظ على البيئة الطبيعية للأجيال الحالية والمستقبلية. ويسعى هذا النهج إلى تحسين رفاهية الإنسان والعدالة الاجتماعية، بينما يقلل في الوقت ذاته من المخاطر البيئية والنقص الإيكولوجي (علم الإيكولوجي يُعنى بدراسة العلاقات بين الكائنات الحية وتحليلها علميًا بما فيها من المنافسة بين الكائنات وإعادة تدوير المواد وتبادل الطاقة). ويهدف الاقتصاد الأخضر إلى إيجاد توازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة، مما يؤدي إلى تقليل الانبعاثات الضارة، وتعزيز كفاءة استخدام الموارد، وتحفيز الابتكار في مجال الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المستدامة.
وبحسب ائتلاف الاقتصاد الأخضر العالمي؛ يُعد الاقتصاد الأخضر تحولًا شاملًا وعميقًا يهدف إلى تغيير الأوضاع العالمية القائمة. ويستلزم هذا التحول إجراء تعديل جوهري في ترتيبات الأولويات الحكومية. وتحقيق هذا التغيير لن يكون مهمة سهلة، لكنه يعتبر خطوة ضرورية للغاية للوصول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ترتكز فكرة الاقتصاد الأخضر على خمسة مبادئ أساسية تهدف إلى تحقيق التوازن بين الأهداف البيئية والاجتماعية بطريقة متكاملة
تاريخ الاقتصاد الأخضر
كانت البداية الحقيقية لظهور مفهوم الاقتصاد الأخضر في التسعينيات، خصوصًا بعد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية (قمة الأرض) في ريو دي جانيرو عام 1992، الذي وضع التنمية المستدامة في صميم الأجندة الدولية.
ثمّ تم تعزيز المفهوم بشكل أكبر مع تقرير رأس المال الطبيعي الذي نشره البنك الدولي في عام 1995، والذي أكد على أهمية الموارد الطبيعية والخدمات البيئية كجزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي.
وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ استخدام المصطلح يكتسب زخمًا، خصوصًا مع نشر البرنامج البيئي للأمم المتحدة (UNEP) تقرير "نحو اقتصاد أخضر: المسارات نحو التنمية المستدامة والقضاء على الفقر" في عام 2011، والذي عرض كيف يمكن للاقتصاد الأخضر أن يكون محركًا للتنمية المستدامة والحد من الفقر.
منذ ذلك الحين، توسع الاهتمام بالاقتصاد الأخضر ليشمل مجموعة واسعة من الموضوعات مثل الطاقة المتجددة، والزراعة المستدامة، والبناء الأخضر، والنقل المستدام، وإدارة النفايات بطرق صديقة للبيئة، مع تركيز متزايد على الابتكار والتكنولوجيا النظيفة. ويُنظر إليه الآن كأحد الركائز الأساسية للتنمية المستدامة ويعتبر استراتيجية حيوية للتصدي للتحديات البيئية العالمية، بما في ذلك تغير المناخ.
يركز الاقتصاد الأخضر على تحقيق الاستدامة البيئية والنمو الاقتصادي من خلال تعزيز كفاءة استخدام الموارد والطاقة على اليابسة
مبادئ الاقتصاد الأخضر
ترتكز فكرة الاقتصاد الأخضر على خمسة مبادئ أساسية توجه كيفية إعادة تشكيل اقتصاداتنا لمواجهة التحديات العالمية الملحة مثل تغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والفجوات المتزايدة في العدالة الاجتماعية. وتهدف هذه المبادئ إلى تحقيق التوازن بين الأهداف البيئية والاجتماعية بطريقة متكاملة، نظرًا لترابط هذه الأزمات وتأثيرها المشترك على مستقبل البشرية.
-
مبدأ الرفاهية:
يشير إلى أن الاقتصاد الأخضر يجب أن يكون مركزًا حول الإنسان، هدفه الأساسي هو خلق الازدهار المشترك والحقيقي للجميع. ويتطلب ذلك التركيز على زيادة الثروة بكل أشكالها -ليس فقط المالية- بل أيضًا الثروات البشرية، والاجتماعية، والمادية، والطبيعية. يؤكد هذا المبدأ على ضرورة توفير الفرص للعمل والحياة الكريمة في إطار الاقتصاد الأخضر.
-
مبدأ العدالة:
يعزز هذا المبدأ الإنصاف داخل الأجيال الحالية وبينها والأجيال القادمة. ويطالب بتقاسم الفوائد والأعباء بشكل عادل، ويسعى لتقليص الفوارق بين الناس وضمان مساحة للحياة البرية، مع التركيز على تمكين المرأة وتعزيز التضامن والعدالة الاجتماعية.
-
مبدأ القيود البيئية:
يسلط الضوء على ضرورة حماية الطبيعة واستعادتها والاستثمار فيها، مع الاعتراف بالقيمة المتنوعة للطبيعة وأهميتها في دعم الحياة بكل أشكالها. ويشدد على أهمية عدم تجاوز الحدود البيئية والاستثمار في البيئة بطرق تعزز التنوع البيولوجي والنظم الطبيعية.
-
مبدأ الكفاءة والكفاية:
يتناول الحاجة إلى اقتصاد يدعم استهلاكًا وإنتاجًا مستدامين، ويكون منخفض الكربون، وموفرًا للموارد، ومتنوعًا ودائريًا. ويدعو إلى ضرورة تحديد الاستهلاك العالمي للموارد ضمن مستويات مستدامة، وتعديل الأسعار والدعم ليعكس التكاليف الحقيقية للمجتمع.
-
مبدأ الحكم الرشيد:
يركز على ضرورة أن يكون الاقتصاد الأخضر مدعومًا بمؤسسات متكاملة، ومسؤولة، وقوية. يؤكد على الحاجة إلى مشاركة عامة واسعة، والموافقة المسبقة المستنيرة، والشفافية، بالإضافة إلى دعم نظام مالي يخدم الرفاهية والاستدامة.
هذه المبادئ معًا تقدم إطارًا لإعادة تشكيل اقتصاداتنا بطريقة تحقق الاستدامة والعدالة للجميع، مع الحفاظ على كوكبنا للأجيال الحالية والمستقبلية.
الفرق بين الاقتصاد الأخصر والاقتصاد الأزرق
يشترك الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق في التركيز على الاستدامة، لكنهما يختلفان في مجالات التطبيق؛ حيث يركز الاقتصاد الأخضر على تحقيق الاستدامة البيئية والنمو الاقتصادي بشكل عام، من خلال تعزيز كفاءة استخدام الموارد والطاقة والحد من الانبعاثات الكربونية على اليابسة، بينما يهتم الاقتصاد الأزرق بالمحيطات والمسطحات المائية، ويسعى لاستغلال الموارد المائية بطريقة مستدامة لحماية النظم البيئية البحرية ودعم الاقتصادات المعتمدة عليها.
يساهم الاقتصاد الأخضر في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز العمل اللائق، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة
موارد الاقتصاد الأخضر
تشير موارد الاقتصاد الأخضر إلى مجموعة واسعة من القطاعات والمنتجات والخدمات التي تعمل على تعزيز الاستدامة البيئية وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. تشمل هذه الموارد ما يلي:
- الطاقة المتجددة
تعتبر الطاقة المتجددة حجر الزاوية في الاقتصاد الأخضر، حيث تشمل مصادر طاقة بديلة مثل الشمس، والرياح، والمياه، والحرارة الأرضية. وتوفر هذه المصادر بدائل نظيفة للوقود الأحفوري، وتقلل من الانبعاثات الضارة وتسهم في مكافحة تغير المناخ، كما تعزز الأمن الطاقي وتخلق فرص عمل جديدة.
- الزراعة المستدامة
تركز الزراعة المستدامة على استخدام الموارد الطبيعية بكفاءة، مع الحفاظ على التربة والمياه والتنوع البيولوجي. حيث تستخدم تقنيات تقلل من استخدام المواد الكيميائية الضارة، وتعتمد على ممارسات مثل تدوير المحاصيل والزراعة العضوية لضمان إنتاج غذائي مستدام وصحي.
- التكنولوجيا النظيفة
تشمل الابتكارات في مجال التكنولوجيا النظيفة تطوير أنظمة فعالة لإنتاج الطاقة، وتقنيات تقليل النفايات، وحلول لتحسين استهلاك الموارد. وتعزز هذه التقنيات الكفاءة البيئية وتسهم في تقليل التأثير السلبي على البيئة.
- إدارة النفايات المستدامة
تشمل استراتيجيات لإعادة التدوير وتحويل النفايات إلى طاقة أو موارد جديدة. وهدفها هو تقليل النفايات المرسلة إلى المكبات وتقليل التلوث، مع الحفاظ على البيئة وتحسين الكفاءة الاقتصادية.
- البناء الأخضر
يعتمد البناء الأخضر على استخدام مواد بناء مستدامة وتقنيات تقلل من استهلاك الطاقة والماء في المباني. ويسهم في تقليل البصمة البيئية للمباني ويعزز صحة وراحة سكانها.
- النقل المستدام
يشير النقل المستدام إلى وسائل النقل الصديقة للبيئة التي تقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري وتخفض الانبعاثات الضارة. ويشمل السيارات الكهربائية، والدراجات، ووسائل النقل العام المستدامة.
- السياحة البيئية
تعزز السياحة التي تحترم البيئة والثقافات المحلية وتسهم في حماية الموارد الطبيعية. وتوفر فرصًا اقتصادية للمجتمعات المحلية مع تعزيز الوعي البيئي والحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي.
الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة
حسب الأمم المتحدة فإن الاقتصاد الأخضر يلعب دورًا محوريًا في تحقيق الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة التي أقرّتها لضمان مستقبل مستدام للكوكب وسكانه. حيث ينص الهدف الثامن على "تعزيز النمو الاقتصادي المطرد والشامل والمستدام والعمالة الكاملة والمنتجة والعمل اللائق للجميع". وذلك من خلال تشجيع الابتكار وتطوير الصناعات المستدامة مثل الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة، ويساهم الاقتصاد الأخضر في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز العمل اللائق، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، مما يوفر نموذجًا للنمو الاقتصادي يجمع بين الكفاءة، والإنصاف، والاستدامة البيئية.
وختامًا؛ يمثل الاقتصاد الأخضر خطوة ضرورية نحو مواجهة التحديات البيئية، معززًا النمو الاقتصادي المستدام والعمل اللائق. ويتطلب التحول إليه جهودًا مشتركة والتزامًا عالميًا لضمان بيئة أكثر استدامة للأجيال القادمة.