06-مايو-2016

مصطفى يعقوب/ سوريا

دأب خيالي على تصوير الحرب في هيئة مقاتل يلفّ رأسه بكوفيّة، يودّع حبيبته بقبلةٍ، ثم يغيب مع بارودته الظّلام. بقيتُ متمسكًا بهذه الرومانسيّة في نوع من المناكفة للمحطّات الفضائية التي جعلت الحروب مضمارًا للسباق على التغطية، للحرب على الشاشات، ربما ليصل الجميع إلى الإحساس بأنّ تلك الحروب لم تحدث كما علّق جان بودريار مرةً. 

لم تكن الحرب تؤجّل مجيئها حتى تأتي شاملةً في عنفها، وشاملةً في معناها

إضافة إلى ذلك، كان هناك شعور جمعيّ بأننا في حربٍ رغم عدم وجودها. فخلال حياتنا في هذه البلاد، وحياتها فينا، ظلّت الحرب تُقدم وتُحجم، تأتي ولا تأتي. ولنتذكر هنا جملة، صحيح أنّ قائلها هو هاري ترومان، لكنها تستحق الذكر: "غياب الحرب ليس سلامًا".. نعم ليس سلامًا لأنه يحمل حربًا أخرى ومن نوع أشد، حيث دواخلنا هي ساحات الوغى.

اقرأ/ي أيضًا: حلب-القاهرة.. امتيازات القتل

لم تكن الحرب، الحرب كخلاص، تتدّلل علينا بمقدار ما كانت، وهذا ما نعرفه جيدًا جدًا، تؤجّل مجيئها حتى تأتي شاملةً في عنفها، وشاملةً في معناها، لتحتوي كل أشكال الحروب المعروفة وغير المعروفة: الحرب الوطنيّة، الحرب المقدّسة، الحرب الأهليّة، الحرب القذرة، الحرب الباردة.. وبسبب هذا انتقلنا سريعًا بين المراحل، من الانتفاضة مرورًا بالثورة، وصولًا إلى الحرب. مرت المراحل سريعًا لا لكي تندمج في المرحلة الأخيرة فقط، بل لتكون هذه المرحلة دمجًا كليًّا لكل عنف التاريخ والأزمنة، منذ مقتل هابيل إلى آخر سلاح تحت الاختبار.

ما نعرفه أنّ هذه البلاد تحتاج إلى حرب، فالفساد فيها عميقٌ عمقَ الأفكار المقدّسة. التّراب الوطني لفّقته خريطة استعمارية، لا الهوية صاغته ولا حركة التاريخ. التعايش هشّ ومغطى بالنفاق والممالأة، هشيمه قابل للاشتعال، و"الإخوّة الأعداء" لم يكونوا ينتظرون أكثر من إشارة ليباشروا كراهيتهم. الهوية شعارات أكثر مما هي معنى، شعاراتٌ تؤكّد أننا على ما يرام وكأن الهزائم وتوالي النّكبات لم يكن لها أثر يُذكر.

كنا نريدها حربًا من أجل جوع الأرواح إلى خبز الكرامة وهواء الحرية، ومن أجل أن نكون شعبًا واحدًا أو ألا نكون، صحيح أن الحرب منتهى البشاعة، لكن ليس هناك غيرها يصلح لتطبيق الحكمة الكبيرة "آخر العلاج الكيّ". ثم اكتشفنا، بقليل من الوقت، أنها ليسن حربنا، ليست ما نريده. بل على العكس تمامًا هي ضدّ كل ما يمكن أن نريده، أو على وجه الدقة، ضد أن يكون الحق في أن نريد.

حدث ما حدث لأننا دومًا نعلي من شأن "هم"، ونصغّر من شأن "نحن"

الآن نعرف لماذا حدث ما حدث. لأنّ التحدّث عن الحسم وانتظاره بروح المغلوبين هو أول أسباب اللا حسم، أو هو طريقة حسمٍ بمقاييس أخرى ليست مقاييسنا. لأننا أعدنا الأشياء التي نعرف أنها أعيدت مرارًا وتكرارًا، بل وبالأسلوب نفسه، إذ صدقنا الأشخاص الذين سبق وأن كان أشباههم يقودون المركب إلى الهاوية في فلسطين ولبنان والعراق. 

اقرأ/ي أيضًا: بين دريد لحام وخالد أبو النجا

ألم يكن الجميع واثقين بأن الأسوأ قادم، لماذا لا يفطن أحدٌ إلى التقليل من سوئه، أو إلى دق ناقوس الخطر مثلًا؟ سيقولون ثمّة من فعل، وسنقول نعم، لكنه فعلها من موقع لا يلتفت إلى حسابات الناس، وقالها بلغة لا تشبه لغة الناس. الناس الذين قتلوا أو شتّتوا أو خسروا أسباب الحياة، ثم جاء أولئك ليدرجوهم كوارد في حساباتهم الخاصة للنصر، وليس غير. 

وحدث لأن الوطن المكتشف فجأةً كان كارثةً على مكتشفيه، فهو لم يأت من سؤال عميق، بل من حَدَثٍ لا يعدو كونه ورطة لدى البعض، أو دعاية سياحية لأوابد وأسواق وغابات وأنهر لدى البعض الآخر، أو مصعد أرضي إلى الجنان إلى بعض من هؤلاء وهؤلاء.

حدث ما حدث لأننا دومًا نعلي من شأن "هم"، ونصغّر من شأن "نحن". نعلي "هم" حين تكون معنا أو علينا، ونصغّر "نحن" فتكون علينا أيضًا. حدث ما حدث لأننا بدلًا من أن نجد أنفسنا فقدناها.

اقرأ/ي أيضًا: 

وداعًا حلب

أين مفتاح الشارع؟