04-مايو-2016

الطالب الشهيد محمد الصادق

ما الذي يوقظ وحش الثورة النائم في أزقة وشوارع و"عِشش" السودان؟ هذا هو السؤال، الذي لطالما تهرَّب منه بعض معارضي نظام البشير، وهم ينظرون الشارع ميتًا يتفرّج على صراع العسكر والطلاب، وكأنه لا يعنيه، وهو الموقف الذي جعل آخرين ممن لم يتهربوا، ينفذون مباشرةً إلى أسهل الظنّ، بأن "الشعب جعان لكنه جبان" بحسب كلمات الهتاف اليائس، الذي كان يتعالى في ما مضى، حين يبلغ تجاهل الشارع لمعارك الطلاب مداه. 

عبر سنوات طوال، فشل معارضو نظام البشير في الإمساك بالمفتاح الذي يحرِّك الشارع في وجه النظام

الأمر ليس موقفًا شعبيًا تجاه الطلاب فقط، فعبر سنوات طوال، فشل معارضو نظام البشير في الإمساك بالمفتاح الذي يحرِّك الشارع في وجه النظام. جرَّبوا كل طريقة، وبذلوا كل خطابٍ ممكن، لكنهم ظلوا مندهشين لهذا الصمت من "مارد أكتوبر"، رغم ما يحيط به من بؤس وضيق وخراب، بل ومذلة! يشدّ المعارضون شَعر الحيرة وهم يقرؤون كيف أن الشعب يعرف أن النظام الحاكم يقودهم صوب الجحيم بسرعة، ومع هذا لا أحد يحرك ساكنًا، رغم كل الفرص التي أتيحت للانتفاض.

اقرأ/ي أيضًا: حلب.. مدينةُ الألم

اليوم، من جديد تُصوَّب النظرات إلى السؤال ذاته، مُعلَّقًا فوق رؤوس المئات من الطلاب الزاحفين خارج أسوار جامعاتهم منادين بسقوط النظام. ولأن هؤلاء الطلاب لم يؤتَ بهم من كوكب أورانوس مثلًا، بل هم أبناء بيئاتهم، وشكلت معاناة أسرهم وعيهم بعدالة ما يطلبون؛ فهم لا يفهمون التجاهل واللا مبالاة اللذين يبديهما العابرون، وهم أيضًا ذوو أسرٍ ويعانون شظف العيش مثل آبائهم تمامًا، ويسبون الحكومة كل يوم من الفجر إلى الليل، فلمَ إذن لا يتجاوبون معهم؟ هل هناك خطأ ما، في ما يطالبون به؟ هل يرفعون شعارات لا "تشتغل" مع هؤلاء الكبار العابسين؟ هكذا تقلي الأسئلة أدمغة الطلاب.

كما قلتُ، ليس سؤالًا جديدًا، لكن لا إجابة شافية حتى اليوم. هو سؤال يسقي عددًا من التساؤلات، ولا شجاعة -برأيي- تجعل أحدًا يدخل رأسه في جحر الأسئلة هذا، ليقرأ ما يحدث حقًا، وليس ما يتمنى حدوثه، فيدَّعيه ويطوِّع ما لديه من "حقائق" شحيحة، ابتغاء أن يجد الإجابة التي يريد.

كتلة الشارع المهيبة تلك، التي يغازلها الجميع حكامًا ومعارضين، لكنها لا ترضى، وتنام متجاهلة تودد الجميع؛ كتلة الشارع تلك، كيف نقرأ موقفها الميت حتى الآن، ونحن نرى طوال الشهر المنصرم، الطلاب يموتون "حرفيًا" في سبيل لفت انتباهها لتنحاز إلى ما يريدونه ويلخصونه في شعارهم الشهير: "حرية، سلام، وعدالة.. الثورة خيار الشعب"؟ هل حقًا هي "تعي مخاطر تغيير النظام" كما يقول الخطاب الرسمي مدعيًا انحياز الشعب إليه؟ أم بلغ الشعب حدًا يئس فيه من الوطن كما يقول بعض المثقفين؟

في السودان، فُقدت الثقة بين الناس والحاكمين، بسبب من سوء الإدارة السياسية لعقود طويلة، وانعدام المسؤولية الوطنية

في الدردشات الشحيحة بين السودانيين الضجرين، في الشارع، وحول "ستات الشاي"، وفي المقاعد المتهالكة لوسائل المواصلات؛ تتكرر عبارة تشي بالانفصام الراسخ بين الشعب كـ"شعب"، والحاكمين كـ"طبقة". يقول أحد ما: "إن الإسلاميين شبعوا أو يكادوا، فلا داعي للمجيء بآخرين سيبدؤون الأكل من البداية إلى أن يشبعوا بعد سنوات طويلة!"، فيؤمِّن على حديثه آخر طارحًا السؤال المعضلة، الذي يغضب المعارضين: "لو فاتوا.. البديل منو؟".

اقرأ/ي أيضًا: أرائحة موت في الأفق؟

فُقدت الثقة بين الناس والحاكمين، بسبب من سوء الإدارة السياسية لعقود طويلة، وانعدام المسؤولية الوطنية، بل تحس أحيانًا أن كثيرين كأنهم بصمتهم يعاقبون المعارضين على خطيئة تسببهم في استيلاء الإسلاميين على السودان. 
حسنًا، الحاكمون في السودان طبقة، يحكم بعضها ويصبح بعضها في المعارضة، إلى أن يزيح هؤلاء أولئك ويحكمون، فيصير أولئك معارضة... وهكذا، بل حتى المعارضات الجديدة بسلاحها وأطروحاتها، مستعدة دائمًا لنسيان كل شيء حين أول تلويح لها بمقعد في مائدة الحاكمين؛ بمكان في الطبقة تلك.

واليوم، ينظر الناس "بتعميم مقصود" إلى كل طالب حُكمٍ وكأنه "لص" يطمع في المال العام؛ مال الشعب. يُنظر إلى هؤلاء كسارقين، فاسدين، كاذبين، ثم بعدها لا يهم ما يقولون. ليس الأمر تجاهلًا بسبب الخوف كما يقول البعض، وأن الناس رأوا كيف تقتل الحكومة من يخرج عليها ولو كان أعزلًا؛ بل في تقديري أن في العين الجمعية للسودانيين، جميع السياسيين يتطابقون، فما الجدوى لإبدال أحدهم بآخر؟

هناك أسباب كثيرة بالتأكيد، تشرح موقف الشارع الهادئ تجاه صخب ما يحدث، بعض تلك الأسباب معقد وذو صلة بالشخصية السودانية وجذور ممسكاتها ومكوناتها، والبعض الآخر يحتاج -في رأيي- إلى شجاعةِ أن نراه.

إن الخرطوم هي مركز الفعل في السودان، وما يحدث فيها يكون المؤثر. لكن في ظل تفتت الحس الوطني، مقابل صعود القبيلة والجهة، فالخرطوم الآن تجمع خليطًا ليس متجانسًا على أي مستوى، وتعاني عدم أمان اجتماعي جعلها ريفًا ألصق ببعضه دون ملاط قومي، يجعل من "المصلحة العامة" مفهومًا ذا ساقين يسعى بهما بين الأحداث والمواقف. بذا نحتاج قراءات جديدة وشجاعة، نحتاج أن نفهم حتى لا نستبدل بشيرًا ببشير، وقبلها نحتاج أن نفهم الشارع ويفهمنا؛ نحن المندهشين منه، كما نحتاج أن نعرف سريعًا أين يقع قلب هذا الشارع الذي لا يتم تغيير بمعزل عنه. 

اقرأ/ي أيضًا:

السودان.. لماذا تخاف الحكومة من الطلاب؟

أراجيح الهاشتاغات