04-أغسطس-2016

(creative ocean/Getty)

في محيطنا، هناك نزوع من الإعلاميين لتثبيت صورة عن مهنتهم بأنها "رسالية". مثلهم يفعل المعلمون بتواطؤ مجتمعي ثقيل. وبرغم أن ما يفعله المعلمون -إن أزحنا المجاملة جانبًا- هو أنهم يميتون شتلات الإبداع والتفرد عند النشء، ويحاولون زراعة ثقافة التماثل مكانها، لينتجوا أفرادًا يتحركون وفق الشرط الاجتماعي السائد، ويحاربون تلقائيًا كل نزعات الخروج، برغم هذا كله، إلا أن ما يفعله الإعلاميون يبدو لي أشد وطأة، فهم في أحسن الظنون، يعملون على إعادة توجيه الرأي العام، والانحراف به بعيدًا عن أسئلته الملحَّة. إنهم متحالفون مع السلطة تمامًا، وإن لم يدركوا ذلك.

يقول تشومسكي، إن من يملكون ويديرون المؤسسات الإعلامية، ينتمون إلى النخبة المحدودة التي تسيطر على الاقتصاد الخاص، وبالتالي تسيطر على الدولة. قد يكون هذا صحيحًا، لكن ثمة ما لم يقله مع ذلك، وهو أن طبيعة الإعلامي/الصحفي خارج هذه النخبة، تسيطر عليها مسلَّمات واهية، يجعله الالتزام الحرفي بها جنديًا مخلصًا لوأد الحقيقة، أيًا كانت، أو تحريفها لصالح النخب المسيطرة، وشبكات الاستغلال الرأسمالية الضارية.

لا يكفي أن تعبر "نظريًا" عن آراء في صالح "الضعفاء" بينما تملك أداة تؤثر فيهم ليكبروا وتؤثر في مستعبديهم ليخافوا

حسنًا، فعلى الأقل هذا بأوضح ما يكون: الإعلاميون شركاء في الجريمة. أي جريمة؟ جريمة تثبيت ما يحدث، جريمة الانحياز إلى القاتل وإطفاء صوت الضحية. يلتزم الإعلاميون بقواعد "المهنية" التي يترجمها البعض إلى الحياد، أوان أحداث يكون فيها الحياد نوعًا من التواطؤ. يصبح الإعلامي المتبّع لقواعد "المهنية"هذه،"ليس إنسانًا"، بل "صحفيًا" فقط. ناهيك عن أنواع من الإعلاميين الموجهين "بوعي تام" والمتلونين بمواقف "رب العمل" من الأحداث التي يعملون عليها.

اقرأ/ي أيضًا: أبو هشيمة وياسر سليم.. ذراعا النظام لشراء الإعلام

هل نحن بحاجة إلى إعلام جديد؟ الإجابة قطعًا "لا" بالنسبة إليّ. لا أريد "إعلامًا جديدًا"، بل أريد إعلامًا بدور جديد. ففي تقديري انتهت حقبة "الإعلام الكلاسيكي" ويجب التخلص من تبعاتها الباقية. إننا نتحرك اليوم في عالم ليس بسيطًا كما كان، الشر والخير فيه ليسا واضحيْن، بل احتمال ألا يكون لهما وجود. عالم الدوال المتغيرة والمصالح التي تستهدف أول ما تفعل، الإنسان، كأضعف وأهون ما في هذا العالم. كيف إذن يمكن لإعلام "الصح" و"الخطأ" القديم أن يفهم ما يحدثُ إن أراد الفهم؟ وكيف لذلك الإعلام الذي يسمي التواطؤ "مهنية" ألا يكون مشاركًا في استعباد البشر؟

لا يكفي أن تنقل ما يحدث، فثمة ما لا تراه ولم تنقله. لا يكفي أن تعبر "نظريًا" عن آراء في صالح "الضعفاء" بينما تملك أداة تؤثر فيهم ليكبروا وتؤثر في مستعبديهم ليخافوا. فليكن الإعلام ابن الحقيقة الأولى "الإنسان" أولًا، ولنحاول أن ننظر إليه -الإعلام- لمرة واحدة بوصفه ليس "مهنة" فقط، ناهيك عن "رساليته" المزعومة.

على من يخرج علينا واصفًا ما يفعله بأنه "إعلام جديد"، أن يقيس ما يفعله جيدًا ليرى مدى التزامه أو خروجه على ما ساد من قواعد الإعلام، المؤسس لها ماليًا واجتماعيًا وفي مناهج الدراسة. فلينظر إن كان خرج عليها أم لا، بعدها فليبرز قواعده الجديدة إن وجدت، وليخبرنا كيف هي مختلفة. إن حصر الجدة في ما تتيحه التكنولوجيا من أدوات نشر، لهو الخداع عاريًا، طالما أن العقول التي تنتج وتعمل لا تزال أسيرة لمسلمات الماضي، وقواعد الانحياز الجديدة، سواء بسواء.

اقرأ/ي أيضًا:
إنهم يغلقون النوافذ
جوليان آسانج.. صحافي نادر على طريقته
بين صحافي وصحافي